الحب الغريب العجيب

17 ديسمبر 2018

نجوم فيلم "الخيط الشبح" ومخرجه في نيويورك (12/12/2017/Getty)

+ الخط -
قال الممثل دانيال لويس، الحائز على جائزة أوسكار ثلاث مرات، إن فيلم "فانتوم ثريد" (الخيط الشبح) سيكون آخر أفلامه، حيث ينوي الاعتزال. ليس مؤكدا إذا كان سيلتزم بذلك، لأن الرهان يظل قائما على مزاجية الفنانين عموما، وسهولة تراجعهم عن أقوالهم بفعل إغراء دور جديد. وهذا ما يأمله عشاق لويس في كل مكان.. ممثل فذ غير عادي، يتمتع بتلك الموهبة العجيبة والقدرة الفائقة على اعتناق الشخصية، وتقمص تفاصيلها بإخلاص، وبدقة تثير الدهشة. وهذا ما يتضح في "فانتوم ثريد" (إخراج بول أندرسون وتأليفه). تقع أحداثه في لندن في الخمسينيات. يمكن اعتباره قطعة موسيقية خلابة، أبدعتها مخيلة مجنونة قادرة على اجتراح المختلف والصادم والعبقري. يؤدي لويس شخصية مصمم أزياء شهير غريب الأطوار، يمتلك نظرة مغايرة للأشياء، يقدّس روتينه اليومي، ويسخط على كل من يحاول خلخلة هذا الروتين، ولو بمقدار ذرة. يمتلك الثروة والشهرة، تطلب ودّه النساء البرجوازيات، وتفخر الملكات والأميرات ونجمات السينما بارتداء أزياء تحمل توقيعه، غير أن ذلك كله لم يجعله يحقق السعادة.
تبدأ قصة العشق الدرامية الغرائبية، حين يلتقي مصادفةً بنادلة ريفية بسيطة، عادية المظهر، متواضعة الأناقة، تبدع الممثلة فيكي كريبس في تجسيدها بعفوية واقتدار. نموذج مغاير يشكل نقيضا صارخا للنساء اللندنيات الأنيقات المثقفات المتكلفات المحيطات به. لسببٍ لا يدركه، يجد نفسه منجذبا للفتاة الغريبة، يدعوها إلى العشاء، إثر لقاء عابر، لتبدأ حكاية التعلق المرضي من ناحيتها عندما تقع في غرامه. تدهشها موهبته، وتقلبات شخصيته بين طفلٍ نكد كثير التطلب وفنان شهير يقوم بتصرفاتٍ مزعجة وغير مألوفة، ما يوقعها في الارتباك والتلعثم، ويجعل حياتها معه في لندن مراوحةً دائمة بين الفرح والأسى. وقد اصطحبها هناك، لتقيم في منزله وتشاركه حياته، بعد أن أجرى على مظهرها تعديلاتٍ جذرية حولتها إلى سيدة مجتمع لافتة للنظر. وقد كرّس خلاصة موهبته في تحويلها إلى أيقونه موضة تثير حسد النساء.
تفقد الحبيبة الريفية ثقتها بنفسها، وينتابها رعبٌ حقيقيٌّ، حين تكتشف أن الحبيب قادرٌ على الاستغناء عنها، من دون أن يرف له جفن، وقد بدأ يعبر عن سأمه منها، وينتقد تصرفاتها بقسوة. وحين تتيقن أنها على وشك أن تفقده نهائيا، تلجأ إلى تسميمه، مستخدمةً أحد أنواع الفطر غير القاتل، لكنه يسبب الألم ويصبح من يتناوله غير قادر على مغادرة الفراش. سعت إلى دفعه إلى الشعور بالتوعك والخوف والقلق والضعف، والحاجة لها، والتعلق بها، فتكرّس وقتها للاعتناء به وتخفيف أوجاعه. المفارقة أنه يدرك ذلك، ويمضي في هذه العلاقة الملتبسة الغريبة، متواطئا. وقد تكشفت أمامه حقيقة مذهلة عن السعادة التي تكمن في الحب الصعب العجيب. يختار التنازل عن عناصر قوته، ويتجرع السم بكامل إرادته، مدركا أن قليلا من الضعف يضيف على أرواحنا جمالية ما، ويخلصنا من مظاهر الكبر والغرور، ويؤهلنا للحب، ويجعلنا نسعى جاهدين كي نتشبث بحقنا في السعادة.
جاءت كل هذه التفاصيل الجميلة ضمن أداء لا يقل براعةً من الممثلة التى كانت ندّا حقيقيا للويس، من حيث القدرات الدرامية، حيث تتحول تدريجيا إلى شخصية مختلفة، بل مضادة للأصل، ضمن حوار عميق بين الشخصيات القليلة في الفيلم، وحوار داخلي مؤثر، وإلى أزياء الخمسينيات الباذجة الجميلة، تبرز موسيقى تصويرية بديعة ترافق تحولات النفسية برشاقة. وعلى الرغم من قلة الشخصيات، ومحدودية الأماكن التي تتحرك فيها الكاميرا، إلا أن القصة غير النمطية والأداء الفذ للممثلين، سوف يسلبان المشاهد من واقعه، ويصحبانه إلى رحلةٍ من متعة وجمال خالص.
AD06A645-8A0A-4B42-9292-5FC44B5D51C6
بسمة النسور

كاتبة أردنية، تحمل الليسانس في الحقوق، صدر لها ست مجموعات قصصية، وكتبت نصين مسرحيين. تكتب في الصحافة العربية منذ 1990، وتشغل موقع رئيسة تحرير مجلة "تايكي" المتخصصة بالإبداع النسوي.