هل ألهمت الثورات العربية شعوب العالم؟

15 ديسمبر 2018
+ الخط -
تثبت الأحداث والوقائع الجارية أن تاريخ انطلاق الربيع العربي  هو تاريخ اندماج العرب في منظومة القيم العالمية وانتمائها للحداثة السياسية، وعلى الرغم من محاولات الثورات المضادة والدولة العميقة تشويه صورة حراكات الربيع العربي بالادعاء أنها تريد إرجاع العرب إلى زمن مضى، إلا أن الأحداث التالية لها تؤكد أنها كانت ملهماً لثورات ستأتي في نهاية هذا العقد، وربما العقد المقبل.
فاجأتنا ثورة فرنسا التي جاءت صورة عن ثورات الربيع العربي. وبالطبع، لن يرضي هذا التشبيه كثيرين من أدعياء اليسار والقوميين وأنصار الأنظمة الحاكمة والثورات المضادة، لأن هذا التشبيه يعني انتماء ثورات الربيع العربي للعصر، بل إنها تكاد تكون سابقة للعصر، ما دامت نسخها العالمية الأولى جاءت بعد انطلاق الربيع العربي بثماني سنوات. لن يرضيهم، لكن ما عسانا نفعل بالمعطيات التي فرضت نفسها علينا وأجبرتنا على المقارنة وتوضيح التقاطعات الهائلة بين الحراكين، العربي والفرنسي:
أولا، تشابه محركات الاعتراض: التهميش والتمييز وسياسات الإفقار، فقد اتبع الرئيس الفرنسي، إيمانويل ماكرون، سياسات منحازة للأغنياء، بل إن فرنسيين يتهمونه باحتقارهم، لأنهم ليسوا أغنياء، وهذه السياسات ذاتها كانت قد أتبعتها أنظمة الحكم في تونس ومصر وليبيا وسورية واليمن، فلم تكتف بمحاباة الأغنياء، بل أصبحت جزءاً من هذه الطبقة، وربما الجزء الأكثر غنى والرأس القائد لهذه الطبقة.

ثانيا، أدوات الاعتراض، جميع الذين يشاركون في ثورة السترات الصفراء، هم بالأساس أبناء الأرياف، وأبناء الضواحي، وبدأت تلتحق بهم قطاعات أخرى، مثل الطلبة وأبناء الطبقة المتوسطة. والمدهش ما ذكره رئيس شرطة باريس أن جميع الذين تم القبض عليهم جاؤوا من خارج باريس، والإدهاش في تطابق هذا القول مع ما كان يقوله إعلام نظام الأسد إن الذين يتظاهرون في شوارع دمشق وحلب من الأرياف، وليسوا من المدينتين.
ثالثا، تشابه تعبيرات الرفض، فقد احتل أصحاب السترات الصفراء شارع الشانزليزيه، أحد أرقى شوارع باريس، والمؤدي إلى أكثر من ساحة وميدان، وهو ما حصل في مصر عندما احتل المتظاهرون ميدان التحرير في قلب القاهرة. وفي تونس، احتل المتظاهرون شارع بورقيبة في العاصمة. وفي اليمن، ميدان السبعين في صنعاء. وفي سورية، ساحة الساعة في حمص.
رابعا، المطالب: صحيح أن السترات الصفراء خرجت نتيجة رفع أسعار المحروقات، لكنها أظهرت أنها نتاج تراكماتٍ مديدة، وأنها حركة اعتراض على النظام والسياسات الفرنسية برمتها، لآثارها السيئة على المجتمع الفرنسي. لذا بدأت تطالب بإسقاط ماكرون، وربما تتطّور لإسقاط نظام الجمهورية الفرنسية الخامسة، وهو ما أثبتته كراهيتهم رموز الدولة، الشرطة وقوس النصر، وهي مطالب ثورات الربيع العربي نفسها التي يئست من إمكانية إصلاح أنظمتها الفاسدة.
خامسا، الغضب من المؤسسات التنفيذية والتشريعية والقضائية والمؤسسات الإعلامية، حيث أصبحت شرعية هذه المؤسسات عرضةً للتشكيك من السترات الصفراء والقطاعات الشعبية التي تنضم إليهم، وهو ما حصل في ثورات الربيع العربي التي كشفت، منذ الأيام الأولى لانطلاقها، مدى تبعية هذه المؤسسات، وانحيازها للنظم الحاكمة.
سادسا، ثورات بلا رأس: لا يوجد للسترات الصفراء أب سياسي، ولا مرجعية سياسية، فلا اليمين ولا اليسار ولا الوسط له علاقة بهذه الحركة. ولا تطمح إلى أن تكون حزبا، وتصف كلودين رايفلز، إحدى ناشطات حراك السترات الصفراء، الحركة بأنها "ليست حزبا سياسيا ولا نقابة، الشعب هو من يصيح، والشعب هو الغاضب". وكانت هذه السمة إحدى أهم ميزات ثورات الربيع العربي.

سابعا، التعبير عن اليأس من النخب الحاكمة، نهضت السترات الصفراء، بعدما عاينت عجز الأحزاب والنقابات عن مواجهة ماكرون وحزبه، حيث شعرت الأحزاب الفرنسية بأنها أصبحت عاجزة أمام تحالف ماكرون مع الأغنياء، وأنها لن تستطيع إيصال صوتها إلى مسامعه. وعندما وجد المتضرّرون من سياسات ماكرون أن أحداً لن ينقذهم من هذه السياسات المتوحشة، هبوا من الأرياف والضواحي، لتحصيل حقوقهم، وهو ما فعله الربيع العربي حين واجه أبناؤه المخاطر والموت، للتعبير عن مطالبهم، من دون انتظار الأحزاب الكاريكاتورية.
ثامنا، وجه الشبه الآخر، وليس الأخير، أن ثورة السترات الصفراء حصلت بدون سابق إنذار. صحيح أن شعبية ماكرون تهاوت في الأشهر الأخيرة، لكن ذلك لم يثر قلقه على اعتبار أن الانتخابات ما زالت بعيدة، بعد ثلاث سنوات ونصف، وأنه حتى ذلك الوقت سيجد الطرق المناسبة لموازنة شعبيته، كما أن ماكرون كان سعيدا بتهميش الأحزاب، وقناعته بعدم قدرتها على توليد زعيمٍ منافس، كما أن النقابات، وبعد فشل إضرابات النقل والشرطة، أصابها اليأس من إمكانية التأثير في سياسات ماكرون. وكان الربيع العربي قد انطلق في لحظةٍ اعتقدت فيها الأنظمة العربية أنها أخضعت البلاد والعباد، وحوّلت دولها إلى استراحات للعائلات الحاكمة التي راحت تجهز أبناءها لمسك السلطة في العقود المقبلة.
هل أنصفت حركة السترات الصفر الربيع العربي؟ لا شك أنها، بهذا التماثل الهائل مع مجريات الربيع العربي، تكشف مدى أسبقية الثوار العرب في ابتداع نماذج ثورية ملهمة لشعوب العالم، خصوصا أن حركة السترات الصفراء تتمدّد شيئاً فشيئاً في الفضاء الأوروبي، وربما تتجاوزه إلى مناطق أخرى. وكنا عندما نريد تصحيح معلومات الأوروبيين عن ثوراتنا نقول لهم إننا استلهمنا الثورة الفرنسة. اليوم، لم نعد بحاجة سوى إلى التأكيد على أن ربيعنا وإن طال فإنه سيثمر.
5E9985E5-435D-4BA4-BDDE-77DB47580149
غازي دحمان

مواليد 1965 درعا. كتب في عدة صحف عربية. نشر دراسات في مجلة شؤون عربية، وله كتابان: القدس في القرارات الدولية، و"العلاقات العربية – الإفريقية".