"تيسو" لا تُرجع الزمن إلى الوراء

30 نوفمبر 2018
+ الخط -
لا يليق هذا الذل بقاهرة المُعز، ولا تطيق "أم الدنيا" هذا الثوب البالي. يغصّ بهو فندق فورسيزنز (نايل بلازا)، في ضاحية غاردن سيتي، وسط القاهرة، بزوار الصباح الباكر، الذين تركوا مقاعد الدفاع عن الشعب، ليتدافعوا على عتبة غرفة ولي العهد السعودي، محمد بن سلمان. يتكدّس النواب خلف رئيس المجلس، يبحلقون في ساعات تيسو الفاخرة، هبة أغدقها السفير عليهم منَّة من سمو الضيف. يضبط النواب زمن مصر على توقيت الرياض، لا شأن لهم باتجاه العقارب، حتى وإن عاكست الزمن أو عكسته. كان المشهد محزناً وجارحاً، وكأن الزمن توقف في القاهرة.
تليق كل هذه العزّة بتونس الثورة، وتشمخ "الخضراء" بهذا الثوب الزاهي. تضيق شوارع المدن، وقاعات النقابات المهنية، والمقرّات الحزبية، بآلاف التونسيين، غير المرحبين بزيارة ولي العهد السعودي، رافضين "تدنيس أرض الثورة". "لا أهلاً ولا سهلاً" قالها أهل تونس للضيف الثقيل. على توقيت الحق، ودقات ساعة ساحة 14 جانفي (يناير) ضبط الشارع التونسي نبضه، فكان المشهد ينبض بالعزة والكرامة. أغلقت تونس نوافذ بيوتها الزرقاء، وخبأت سلال التمر والحليب. تسلل الضيف خلسةً، وغادر على عجل، كأنه يسرق الزمن من أهله.
ما بين القاهرة وتونس، دارت عقارب بن سلمان، درَّت ساعات "تيسو" في القاهرة، وتدارت خجلاً في تونس. وإن سال لعاب بعضهم في القاهرة، طمعاً بساعة "مستوردة" أو كمشة تأشيرات عُمرة للديار المقدسة، أو ربما قليل من التمر، فإن حناجر الشعب التونسي جفّت، وهي تدافع عن وطن الثورة من أن يمسّه الدنس. ما هان شيب وشباب أبو القاسم الشابي ذوداً عن كرامةٍ لا تشترى ولا تُباع.
من تهافتوا على أبواب غرفة نوم بن سلمان، أو من هرولوا لاستقباله في مقر إقامته بالقاهرة، وحتى أولئك الغلابة الذين رفعوا صور الضيف مقابل حفنة جنيهات، لا يمثلون المحروسة مصر، ولا يمثلون شعب ثورة يناير، أبناء ميدان التحرير. ومهما بلغت عطايا بن سلمان وهباته، فإن الأهرامات لا ترضى ثوباً غير ثوبها الفرعوني، ولا ترتدي علماً سوى علمها الوطني.
دخل محمد بن سلمان مصر غير آمنٍ، وتسلّل إلى تونس مرتجفاً، يتلفت متحسّساً رأسه وكأن روح جمال خاشقجي تطارده، أو كأن رائحة قتلى اليمن تخنق أنفاسه. يذكُّره لون السجادة الحمراء بشلال الدم المسفوك في اليمن، وتذكّره سيارات الموكب السوداء المظللة بسيارات دبلوماسية سعودية حملت ذات يوم إرب خاشقجي إلى مكان ما.
أشار وكلاء العلاقات العامة في واشنطن على ولي العهد السعودي بضرورة الخروج من قفص الاتهام، وممارسة حياته وليا للعهد بشكل طبيعي، عبر تنظيم زياراتٍ متتاليةٍ لعواصم تعتبر موالية له، وهذا ما كان. مرّت زيارته إلى الحليف الأول، أبو ظبي غير مرئية، واقتصرت زيارته إلى القاهرة على حفلات بَلع مزيد من "الرز" السعودي. في حين كانت زيارته تونس أشبه بغارات لصوص الليل.
هل ستفيد فعلاً جولات ولي العهد السعودي في غسل وجهه من دم جمال خاشقجي، وروح الضحية لا تزال معلقة بين السماء والأرض. هل تنجح ساعات تيسو في إرجاع عقارب الزمن إلى الوراء لتنظف أيادي ملطخة بدماء مئات آلاف اليمنيين، ممن قضوا نحبهم تحت القصف أو فتكاً بالكوليرا والملاريا. في حكم الأكيد أن حملات العلاقات العامة، وإغداق الهدايا على النواب والإعلاميين، وشراء الأقلام والذمم لن تُمكّن محمد بن سلمان وعرشه، إن بَلغَه. ولا أدلّ على ذلك مما تعرّض له العاهل الإسباني السابق خوان كارلوس من انتقاداتٍ شرسة، الإثنين الماضي، بعد تداول صورة له في أبوظبي مع ولي العهد السعودي، وقد نشرت صحيفة إل موندو اليومية المحافظة الصورة تحت عنوان "صورة العار". وألغت شركة دبليو أم بي يروكوم الألمانية للعلاقات العامة تعاقدها مع السعودية لتحسين صورة ولي العهد في ألمانيا، إذ لم يعد بالإمكان غسل الدم بالريالات.
AE03ED80-FBD8-4FF6-84BD-F58B9F6BBC73
نواف التميمي
أستاذ مساعد في برنامج الصحافة بمعهد الدوحة للدراسات العليا منذ العام 2017. حاصل على درجة الدكتوراه من جامعة غرب لندن في المملكة المتحدة. له ما يزيد عن 25 سنة من الخبرة المهنية والأكاديمية. يعمل حالياً على دراسات تتعلق بالإعلام وعلاقته بالمجال العام والمشاركة السياسية، وكذلك الأساليب والأدوات الجديدة في توجيه الرأي العام وهندسة الجمهور.