وقائع مُلهِمة من الشرق الآسيوي

24 نوفمبر 2018
+ الخط -
في غمرة الأخبار السيئة والتطورات الأليمة التي شهدها العام الجاري، يبرز تطور ذو أهمية ينطوي على قدر كبير من الإيجابية، يتعلق بالتقارب المتزايد بين الكوريتين، الجنوبية والشمالية، وحيث يعيش شعب واحد في رقعتين جغرافيتين، وفي ظل نظامين سياسيين على درجةٍ كبيرةٍ من الاختلاف بينهما. فقد شهد هذا العام ثلاثة لقاءات قمة بين زعيمي البلدين، الجنوبي مون جيه أون والشمالي كيم جونغ أون، وقد عقد اللقاء الأخير بينهما في عاصمة الشمال، بيونغ يانغ، واستغرقت زيارة الرئيس الجنوبي ثلاثة أيام، وفي أجواء سادتها روح ودية، لا تخلو من حماسة (من 18 إلى 20 سبتمبر/ أيلول 2018). ووصفتها بيونغ يانغ في حينه بأنها "تشكل فرصة مهمة لتسريع تطوير العلاقات بين الكوريتين اللتين تفتحان صفحة جديدة في التاريخ".
يعود الفضل في إطلاق عملية التقارب بين الجانبين إلى الزعيم الكوري الشمالي الذي أعرب عن نية بلاده التخلص من الأسلحة النووية. ولئن كان هذا التعهد قد نقل إلى الولايات المتحدة، إلا أن الخطر النووي كان يهدد، في المقام الأول، الشطر الجنوبي من البلاد. وقد تواكب التقارب بين الطرفين مع ذوبان الجليد في علاقات أميركا بكوريا الشمالية، وهو ما جرى تتويجه في لقاء القمة الذي جمع الرئيس دونالد ترامب بنظيره الكوري الشمالي في بلد ثالث (سنغافورة) يونيو/ حزيران الماضي.
وقد لوحظ أن البلدين سارعا، منذ اللقاء الأول، بين زعيميهما في إبريل/ نيسان الماضي، إلى إزالة ما يزيد عن عشرين موقعا عسكريا على الحدود الفاصلة بينهما، في إشارة رمزية إلى 
الاستعداد المبدئي المتبادل لطي صفحة العداء والتهديدات العسكرية على جميع مستوياتها. والمعلوم أن علاقة الجانبين تحكمها اتفاقية هدنة جرى توقيعها في العام 1953، إلا أن الجانبين لم يتوصلا بعد إلى إعلان إنهاء حالة الحرب بينهما، وهو التتويج الطبيعي لمسيرة التقارب، غير أن تسارع هذه المسيرة يفتح أفقاً واقعياً للإعلان عن إنهاء حالة الحرب، وهو ما يشكل طموحا عزيزا للكوريين في الشطرين، كما يمثل بالذات هدفا لكوريا الشمالية، إذ ينزع مبرّر العقوبات الأميركية والدولية على هذا البلد. وقد شملت مسيرة التقارب اتفاقاتٍ، تهدف إلى نزع الطابع العسكري عن الحدود الفاصلة، بما ذلك تطهيرها من الألغام، وإعادة العمل بالسكك الحديدية، وكذلك تهيئة الطرق البرية بين البلدين، وإقامة منطقة صناعية مشتركة. ويسترعي الانتباه، في غمرة ذلك، اتفاق زعيمي الشطرين على السعي إلى تقديم عرض مشترك لاستضافة دورة الألعاب الأولمبية الصيفية لعام 2032، والاشتراك معاً في منافساتٍ دولية أخرى، منها أولمبياد 2020 في طوكيو. وهي خطوةٌ رمزيةٌ بالغة الأهمية، تنبئ بتوجّه الشطرين إلى إعادة صورة كوريا الواحدة والموحدة، ابتداء من التوقف تدريجيا عن تصنيف الكوريين شماليين وجنوبيين في مناسباتٍ رياضيةٍ دولية رفيعة المستوى.
الأمر الآخر المتعلق بانتهاء القطيعة وتطور العلاقات بين الجانبين أن هذه المسار أخذ ينفصل، ويستقل نسبيا عن مسار الاتصالات المستأنفة بين واشنطن وبيونغ يانغ، فإرادة التقارب بين الكوريين أقوى وأكثر وضوحاً مما هي عليه بين الأميركيين وكوريي الشمال، وليس أدل على ذلك من تعثر الاتصالات بين واشنطن وبيونغ يانغ، بشأن إجراءات نزع السلاح النووي والخطوات المقابلة المطلوبة من واشنطن، في وقتٍ تتحسن علاقات الكوريتين باضطراد.
على أن تزخيم التقارب سيظل محكوما، في نهاية المطاف، بتأثير الولايات المتحدة التي تملك في كوريا الجنوبية أكبر قاعدة لها في الخارج (تضم 28500 جندي، كلفة إنشائها 11 مليار دولار دفعت سيول 90% منها)، إضافة إلى نظام دفاع صاروخي أميركي متقدم. وربما تحتاج المفاوضات سنينَ طويلة، قبل التوصل إلى نتائج مرضية للطرفين، الجنوبي والشمالي، بخصوص القدرات العسكرية للجانبين. علما أن الأمر لا يتعلق بهذه الأطراف الثلاثة فقط، فبلد مثل الصين، تربطه علاقة وثيقة بكوريا الشمالية، يجد نفسه معنيا بتحجيم القدرات العسكرية 
لكوريا الجنوبية التي تستند إلى مرافق ومعدّات أميركية (في تصنيف موقع غلوبال فاير باور، المختص في الشؤون العسكرية، لأقوى جيوش العالم في 2018، جرى تصنيف جيش كوريا الجنوبية السابع في العالم، متقدّما بذلك على جيوش ألمانيا وإيطاليا وإيران وإسرائيل). إضافة إلى الخشية الصينية من نفوذ للشركات والاستثمارات الكورية الجنوبية مستقبلا في الشمال. فيما تخشى روسيا من نفوذٍ أميركي مستقبلي في كوريا الشمالية، وقد تفضل بقاء الوضع على ما هو عليه، على أن تتمع أميركا، أو حتى كوريا الجنوبية، بنفوذ في هذا البلد. ولروسيا دالة كبيرة على كوريا الشمالية، ومن يلجأ إلى تقسيم بلدٍ كان موحداً، مثل أوكرانيا، لن يعنيه كثيرا توحيد بلد مقسم مثل كوريا. أما أميركا نفسها فتبدو كأنها معنية بإخضاع كوريا الشمالية، ونزع سلاحها النووي، بأكثر من العمل على إحلال السلام في شبه الجزيرة الكورية.
غير أن ديناميات التقارب بين الشطرين سوف تفرض إيقاعها على الأطراف الدولية التي تبحث عن تعظيم مصالحها في هذا الجزء من آسيا، فكوريا الجنوبية قوية اقتصاديا وعسكريا، بمعزل حتى عن الوجود الأميركي فيها (صادراتها 560 مليار دولار في العام، ومعدل دخل الفرد السنوي فيها 27 ألف دولار). وقد تبادل شطرا كوريا أخيرا الهدايا: أطنان من فطر الشمال، ومن مندرين (حمضيات) الجنوب، إلى الجانب الآخر. وهذه إشارة رمزية أخرى إلى النزوع نحو إحياء الروابط القومية التي تجمع العائلة الكورية الكبيرة.
يحدث ذلك في شمال شرق آسيا، بينما في غرب القارة في بلادنا العربية نتفنن في تصليب الحدود والحواجز بيننا، وحتى العلاقات المتينة بين "دولتين شقيقتين"، فإنها قلما تنعكس بصورة إيجابية ملموسة على الشعبين.