اغتيال خاشقجي.. الفرد والدولة

اغتيال خاشقجي.. الفرد والدولة

27 أكتوبر 2018
+ الخط -
ما الفرق بين جريمة القتل التي يرتكبها مواطن ضد مواطن آخر وتلك التي ترتكبها السلطة في مواجهة أحد مواطنيها؟
تأتي جريمة قتل مواطن آخر على بشاعتها من سلوك فردي، وتتعلق بدوافع فردية، وتتسبب بها عوامل وخلافات خاصة بين الضحية والقاتل أيضا. أما جريمة القتل التي تمارسها السلطة ضد أحد مواطنيها، فهي تقع في مكان آخر، ليس هناك خلافات شخصية بين السلطة ومواطنيها، وليس للسلطة دوافع فردية لارتكابها الجريمة، كذلك ليست هناك مشكلات خاصة بين السلطة والمواطن. والأهم أن الشخص يمكن أن يدافع عن نفسه في مواجهة آخر يريد أن يقتله، وهو ما يعتبر دفاعا مشروعا عن النفس، أما السلطة التي تحتكر أدوات العنف فلا يمكن للشخص أن يكون ندّا لها، ولأن من واجب السلطة حماية مواطنيها، لا قتلهم، فعندما تقوم بذلك، يمكن القول إنها تقوم بـ"جريمة عمومية" بمعنى أن قتلها مواطنا واحدا هو قتل وظيفتها الرئيسية بحماية مواطنيها، ما يجعل كل من يخضع لهذه السلطة تحت تهديد القتل. وبما أن امتلاك السلطة شخصي، السعودية نموذجا، فأدوات السلطة امتداد لشخص الحاكم.
يبدو ذكر هذه البديهيات ضروريا عند قراءة الرواية السعودية عن اغتيال الكاتب جمال خاشقجي التي تستخف بعقول البشر، وتريد إقناعهم بما جرى بأسخف رواية ممكنة: ضباط من الأجهزة الأمنية السعودية في مقهى سعودي، عرفوا أن جمال خاشقجي سيراجع القنصلية السعودية في تركيا، تسامروا بينهم، أحدهم قال إنه سمع أن جمال يريد العودة إلى السعودية، "ما رأيكم أن نذهب إلى إسطنبول نقنعه ونساعده بالعودة"، ركب الشباب (ثمانية عشر رجلا
أغلبهم ضباط أمن، لإقناع جمال بالعودة) طيارة خاصة، وانتظروا الرجل في القنصلية (المقهى الذي يدخله أي عابر سبيل يمكن أن ينتظر أي أحد فيها؟!) وعندما جاء الرجل، تناقش معه ثمانية عشر رجلا في شأن العودة إلى السعودية، اختلفوا على مكان جلوس جمال في الطائرة العائدة إلى السعودية، فحصل شجار بين جمال وثمانية عشر رجلا؟ وفي أثناء هذا الشجار المؤسف، توفى جمال على يد فاعلي الخير الذين جاءوا ليعيدوه إلى السعودية، فأعادوه أشلاء في أكياس إلى المملكة. هذا ما تحاول الرواية السعودية إقناعنا به.
تغتال السعودية خاشقجي مرة ثانية باستخدامها مصطلحاتٍ تحاول أن تسمّي الأشياء بغير مسمّياتها لرواية ما حدث، ما جرى حادث مؤسف" (كما جاء في تصريح وزارة الخارجية السعودية في حديثها عن توجيهات الملك سلمان بن عبد العزيز للتحقيق في اختفاء الرجل) أدى إلى "وفاة" خاشقجي (تصريح النائب العام السعودي)، أي أن ما جرى في القنصلية السعودية في إسطنبول في غاية العادية، مجرد "حادث مؤسف" مثل عشرات آلاف حوادث السيارات المؤسفة التي تقع كل يوم في العالم. وأدّى هذا الحادث إلى وفاة جمال، أي أن الوفاة من عوارض "الحادث المؤسف"، لم يتوفّ جمال في القنصلية، بل قُتل، هذا التعبير الصحيح. هذه اللغة التي يتم التحدث بها عن القتل، القتل ليس وفاة، ليس انتهاء عمر، هو قتلٌ بفعل مجرم، وفي حالة جمال، الرجال الذين قتلوه، لم يقتلوه لخلافاتٍ شخصية بينهم وبينه، قتلوه بتكليف من السلطة التي أرسلتهم. إنها "جريمة قتل معلن".
بالتأكيد، لم تصدر الرواية السعودية للجريمة بحثا عن الحقيقة، إنما جاءت لتجنب تداعيات الاغتيال المعلن للرجل. ولأن الرواية السعودية الأولى التي رواها ولي العهد، محمد بن سلمان، أولا لوكالة بلومبيرغ من أن الرجل غادر القنصلية، لم يستطيعوا إثباتها. جاءت الرواية من أجل الولايات المتحدة، ومن أجل الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، تحديدا الذي صرح بأن الرواية السعودية "جديرة بالثقة" بأن القتل كان نتيجة "شجار" داخل القنصلية على يد "قاتل مارق" (كيف مرق؟!). وبالتأكيد، ستكون هذه الجريمة مصدرا إضافيا لابتزاز أميركي للسعودية إلى سنوات طويلة مقبلة، إضافة إلى عشرات القضايا التي تبتز بها الولايات المتحدة السعودية.
ما يفسّر الرعونة السعودية في اغتيال خاشقجي مفهوم العائلة المالكة للسلطة، وهو مفهومٌ مفارقٌ للمفهوم الحديث عن علاقة السلطة بالمواطن، فالسلطة في السعودية لا تعترف بأن عندها مواطنين هي مسؤولة عنهم، وعن أمنهم وسلامتهم. إنها تفهم السلطة بوصفها "مزرعة خاصة". ولا يعود هذا الأمر فقط إلى اغتيال خاشقجي، بل إلى شكل ممارسة السلطة الطائش لولي العهد، محمد بن سلمان، فإذا أخذنا سلوكه لمحاربة الفساد التي عالجها باعتقال أعضاء من الأسرة المالكة في فندق فخم، وأجبرهم على دفع مبالغ كبيرة من أجل الإفراج عنهم. فلم يعرف 
أحدٌ أي فسادٍ ارتكبه هؤلاء، وأي خرابٍ خلفوا بالبلد؟ ولم يُعرض أيٌّ منهم للقضاء حتى تثبت إدانته أو براءته، إنها عقلية "صاحب المزرعة" الذي يعتقد أنه يستطيع أن يفعل ما يشاء في مزرعته وحيواناته داخل هذه المزرعة، من دون أي محاسبة، فهو يتصرّف بما يملك، حتى لو كانت حيوات البشر. وقد وصل هذا السلوك الأرعن إلى حد اعتقال رئيس الوزراء اللبناني، سعد الحريري، لمجرّد أنه يحمل الجنسية السعودية. هل كانت تلك الاعتقالات تهدف فعلا إلى محاربة الفساد، وهل تراجع الفساد في المملكة بعد هذا الاعتقال؟ لا أعتقد، فكل سلطة ليس فيها سلطات مراقبة تشريعية منتخبة للسلطة التنفيذية، وليس فيها قضاء مستقل، بيئة ممتازة للفساد. السلطة الفردية المزوّدة بقوة السلطة من دون سلطات تضع الحدود القانونية لممارسات السلطة، فإن هذه السلطة تنزع بالضرورة باتجاه ممارسة الاستبداد بأسوأ أشكاله، القتل والاعتقال والترهيب، وهو حال السلطة السعودية وغيرها من السلطات في العالم العربي.
دائما، الفرد عار أمام السلطة، وعلى هذه السلطة حمايته، كان الثمانية عشر رجلا الذين قتلوا خاشقجي الأداة القذرة والمنحطّة التي قتلت الرجل، ثمانية عشر رجلا لم ينظروا في عيني رجل خائف وأعزل قبل قتله، كانوا أنياب السلطة التي لا تحتمل كلمات نقد متواضع في صحيفةٍ أميركية، أشك أن يراها مئات السعوديين. إنها السلطة المتوحشة التي تقتل بدم بارد وتخاف من الكلام.
تتخلّص السلطة في السعودية اليوم من الأنياب التي قتلت بها خاشقجي، لأنها انكشفت. وغدا ستصنع أنيابا جديدة لقتل آخرين. لا يمكن محاكمة الأداة من دون محاكمة صاحبها. ومن سخرية القدر أن السيد الذي أمر بالقتل يحاكم عبيده الذين قاموا بالمهمة القذرة.
D06B868A-D0B2-40CB-9555-7F076DA770A5
سمير الزبن

كاتب وروائي فلسطيني، من كتبه "النظام العربي ـ ماضيه، حاضره، مستقبله"، "تحولات التجربة الفلسطينية"، "واقع الفلسطينيين في سورية" ، "قبر بلا جثة" (رواية). نشر مقالات ودراسات عديدة في الدوريات والصحف العربية.