بانتظار اللحظة المناسبة

10 يوليو 2017

(فتيحة أبلاش)

+ الخط -
لم يكن في حوزتها أي دليل مادي، تستند عليه في تأكيد تلك الهواجس الغامضة التي تمكّنت منها، باستثناء حدْسها الذي تعوّل عليه كثيرا، غير أن صوتا خفيّا لم يكفّ عن الإلحاح عليها، هامسا لها بين حين وآخر: إنه رجل لعوب، لا يدرك معنى الوفاء، وأنت تتعرّضين للخيانة، أيتها الغبية! تحاول التحكّم في مسار أفكارها المنفلت، وإسكات ذلك الصوت الشيطاني الذي يوسوس لها، لكن بلا جدوى، غرقت كليا في الحيرة والحزن، وبات الصوت الخفي يزداد إلحاحا، فينغّص عليها فرحتها. بدأت تلاحظ، بعد مضي عامين على حكاية الحب الكبير بينهما، أن نظراته لم تعد تتركّز على وجهها، مثلما كان يحدث في البدايات، اعتاد وقتها على التحديق فيها، مستمعا بكل حواسه لكل حرفٍ تتفوّه به. وكثيرا ما توسلته بخفر أن يزيح عينيه قليلا، لأن ذلك يُربكها كثيرا، وتفرح حين يرد قائلا: أي آخرين، وليس في الكون سواك؟ وظل يردّد على مسامعها في كل مناسبة أنه يحبها أكثر من أي شي في الوجود، وأنه ينوي أن يظل كذلك، مهما حدث.
لم يعتر قاموسه العاطفي أي اختلافٍ يُذكر، بل تصاعدت وتيرته، وصار أكثر وضوحا وجرأة، غير أن نبرة صوته ذاتها اختلفت. أصبحت أكثر حيادية، ولم تعد تلك القشعريرة العذبة تجتاح جسدها كلما سمعته. قالت لها صديقةٌ صاحبة سجلٍّ عاطفيٍّ حافل بالتجارب الفاشلة: أنت المخطئة، لأنك جعلته مرتاحا، لم تحاولي إثارة غيرته، أو حتى شكّه، منحتيه أمانا مطلقا فلم يشعر مرّة بالتهديد، وكنتِ متوفرةً كلما احتاج إليك. رتبت تفاصيل حياتك على مقاسه الصغير بعبارةٍ أوضح. أصبحتِ تحصيل حاصل في حياته، فبالغ في اطمئنانه نحوك. ولم يعد يبذل جهدا لإبقاء الجذوة مشتعلة بينكما، وأنت تبدين كل ذلك الخضوع والامتثال. لم تلق بالاً لرأي الصديقة.
كانت مقتنعةً بأن الصدق والعفوية من أهم مزايا شخصيتها التي ظلت، طوال حياتها، شديدة الاستقامة والوضوح. وكان بعضهم يعتقد أنها تفتقر إلى الدبلوماسية واللباقة الضروريين في الحراك الاجتماعي الذي لا يحتمل الحقيقة عارية من المساحيق: لم ترق لها يوما الألاعيب المكشوفة التي تتقنها النساء في سبيل الإيقاع بالرجال في فخ الزواج، ولم تفتعل شيئا في حكايتها معه، منذ اقتحم عالمها الذي توهّمته، مشيدا بالحيطة والحذر. قاومت طويلا متسلحةً بقناع من البرود، قبل أن تجد نفسها مأخوذةً بالكامل إليه. حاولت إقناع ذاتها بأنه لا يصلح لها، ولن يتبقى، بعد اندفاعه الشديد نحوها، سوى الضجر والخذلان وملاحقة الأخريات. في الأمسية التي ضمتهما، أخيرا، في مطعم فاخر خافت الإضاءة، كان قد دعاها إليه احتفالا بعيد ميلادها، وقد خبأ، باعتناء شديد، خاتم الخطوبة الثمين في جيبه بانتظار اللحظة المناسبة. كان ليلتها شديد الوسامة، ببذلته الرمادية وربطة العنق التي أهدتها إياه في عيد ميلاده.
بدا قلقا وكثير التلفت حوله، كان بانتظار وصول الكعكه التي تآمر مع إدارة المطعم على إحضارها في لحظةٍ معينة، وهي تحمل شمعتين، كي يقدّم لها الخاتم الذي طال انتظاره. خيّل إليها، في تلك اللحظة، أنه يسترق النظر إلى امرأة جميلة، تجلس في طاولة مقابلة. أحست بالحزن، وبدا ذلك الصوت أكثر قسوةً، وهو يهمس: إنه رجلٌ ملول لن يصلح لك. نهضت محتدةً، وهي تقول: لن أتمكن من الاستمرار معك. أنت لا تحبني كما استحق. غادرت الطاولة من دون أن تلتفت إلى الوراء، أو حتى تمنحه فرصة استيعاب سبب احتدادها. لم تعرف صاحبتنا، حتى اللحظة، عن الخاتم المحفور عليه اسماهما وتاريخ لحظة البوح بالحب، مغلف بورق وردي، مستقر في جيب بذلته الرمادية، بانتظار اللحظة المناسبة.
AD06A645-8A0A-4B42-9292-5FC44B5D51C6
بسمة النسور

كاتبة أردنية، تحمل الليسانس في الحقوق، صدر لها ست مجموعات قصصية، وكتبت نصين مسرحيين. تكتب في الصحافة العربية منذ 1990، وتشغل موقع رئيسة تحرير مجلة "تايكي" المتخصصة بالإبداع النسوي.