إلى حكماء العرب

إلى حكماء العرب

08 يونيو 2017
+ الخط -
بين الآونة والأخرى، تشوب العلاقات الأسرية خلافاتٌ في التوجهات والقناعات، وهذه ظاهرة صحية، ما دامت في إطارها الطبيعي. وما يحدث في نطاق الأسرة هو ما يدور في أروقة العلاقات الدولية. وفي الحالتين، تبقى الأمور بين عقول الحكماء وألسنة الإعلاميين. تستدعي هذه التبعة الثقيلة التي يحملها الفريقان توخّي الحيطة والتزام الحكمة، والتثبت من الرأي قبل نشره؛ نُشدانًا للمصلحة العامة، وتأكيدًا على أهمية الوحدة بين أعضاء الجسد الواحد.
إذا كان الخلاف مطروحًا بين البشر؛ فإنّ منهجية التعامل مع الخلاف تلعب الدور الرئيس في تعميق الجرح النازف أو احتوائِهِ ورأب الصدع الناجم عنه. ولا ريب أنَّ بعض الوسائل الإعلامية تنفخ في النار لتؤجِّجَ نارها؛ إما تمسُّكًا برأيٍّ واحدٍ دون الآخر، أو سعيًا لمصلحةٍ رخيصة. وهنا، لا تكون سقطة هذا الإعلام من أنظار الشعوب أقسى ما يمكن. الهدم سهلٌ ميسور لا يتطلب الجهد المضني الذي يلزم للبناء، كما أنَّ هندسة لمِّ الشمل أكبر مشقةً من القطيعة أو القَبَلِّيَة أو الحزبية. العلاقات بين الدول أكبر من مجرّد أزمة عابرة، مهما طالت هذه الأزمة، فالأزمات تكشف لنا عن جوانب الحكمة لدى ذوي الحل والعقد، وبراعتهم في تجاوزها وتطويعها للصالح العام للأمة بأسرها.
لسنا ملائكةً، ومن ثمَّ فإنّ الخلاف وارد؛ وقد اختلفت نظرة الخيِّرينِ، أبي بكرٍ الصديق وعمر بن الخطاب، بين يدي النبي الكريم، وأنزل الله في ذلك قرآنًا يتلى إلى يوم يبعثون. فقد أقبل وفد بني تميم على الصادق الأمين، وأراد المصطفى أن يؤمِر عليهم رجلاً منهم، فقال الصديق: أمِّر عليهم الأقرع بن حابسٍ، يا رسول الله؛ فقال الفاروق: بل أمِّر عليهم القعقاع بن معبدٍ يا رسول الله. فالتفت الصديق إلى الفاروق، وقال له: ما أردت إلا خلافي يا عمر؟ فقال الفاروق: والله ما أردتُ خلافَكَ يا أبا بكر. هذا ما دار من الصديق والفاروق، ولم يزد الأمر على ذلك. ومع أنّ الخلاف واردٌ بين الأشقاء، فإنّ التعامل معه يبقى من أسرار صيانَةِ الجسد الواحد من الآفات التي تسعى جاهدةً إلى النيل منه. وقد يكون العقل والحكمة أقصر الطرق إلى القضاء على الخلافات وشرور الفتن.
الاحتكام للعقلاء ديدنُ أهلِ الرشد في كلِّ عصر؛ وحين بدا لقريشٍ أن تنكِصَ على عقبيها وترتد عن دين الله بعد وفاة المصطفى الكريم، أقدمت قريشُ على أمرٍ يبوحُ عن بُعدِ نظرهم في هذه المسألة المصيرية؛ فإذا بقريشٍ لم تستمع لآلةٍ إعلاميةٍ مُتحيِّزة، ولا لتحليلٍ إعلاميٍ سفيه أو أطروحاتٍ ساذجة، وإنما عمدت قريشٌ للحكماء، فاستشاروا سهيل بن عمرو أحد حكماء العرب الكبار؛ فنفعهم الله برأيه، إذ قال لهم: يا معشر قريش! لا تكونوا آخر من أسلّم وأولَّ من ارتد. فهل يفطِنُ العقلاء من الإعلاميين لخطورة تهييج الرأي العام على واقع ومستقبلِ أمتنا العربية؟! أم أنّ تأجيج نار الخلاف والفُرقة أصبح السمة الغالبة على إعلامنا إلا من رحم ربي؟
معلوم بالضرورة أنَّه إذا سكت من لا يعلم؛ سقط كلُّ خلافٍ، مهما بدا كبيرًا. كلُّ ما نحتاجه، في الوقت الراهن، تفعيلُ قوله تعالى: "تعالوا إلى كلمةٍ سواء"، وأن يلوذ بالصمت من لا يحسن تقدير الأمور والخوض فيها؛ حتَّى لا يتسع الخرقُ على الراتِق. وفي الإطار نفسه، ونحن ندعو إلى تحكيم العقلاء والحكماء من الساسة المحنكين في أمتنا العربية فيما يطرأ على الساحة من التصادم الفكري؛ فإنني أدعو الجميع إلى الاستماع إلى صوت حكيم العرب الكبير، أكثم بن صيفي، وهو يوصينا من على فراشِ موته: كونوا جميعًا، فإنّ الجمعَ غالب، والمرء يعجزُ لا محالة، وإياكم وكثرة الصياح، فإن الصياح من الفشل، وتثبتوا ولا تسارعوا فإنّ أحزم الفريقين أركنهما، ورُّب عجلةٍ تهبُ ريثًا.
D14DCC9E-4695-4E3F-AF5D-957B3D79F68C
D14DCC9E-4695-4E3F-AF5D-957B3D79F68C
محمد الشبراوي (مصر)
محمد الشبراوي (مصر)