عالَم لا يُدلي بشهادته

19 ابريل 2017

أحمد دحبور.. لم ينشغل بالشهرة

+ الخط -
في أوائل الثمانينيات من القرن الماضي، كانت أزقّة أحد الأحياء في غزّة تردّد أغنية سمعها صبيةٌ من شريط كاسيت عتيق، وصل إليهم مُهرّباً من مكانٍ ما، ولكنّهم حفظوا الكلمات وردّدوها وهم في طريقهم إلى المدرسة، حتى حفظتها جدران الأزقّة، وبدأت تردّدها معهم، فثمّة صِبيةٌ قد تجاوزوا العاشرة بقليل، وكنت منهم، وقد بدأت مشاعر جديدة تنبض في شرايينهم، فصبّت جميعها في بوتقةٍ واحدة، وهي حبّ الوطن الضائع الذي حدّثهم عنه الآباء والأجداد، فحفظنا عن ظهر قلب، أغنية لا نعرف من يغنّيها، ولا حتى كاتب كلماتها، وهي "اشهد يا عالم علينا وع بيروت، اشهد على الحرب الشعبيّة...".
مرّ بي قطار العمر، وأنا أترنّم بكلمات هذه الأغنية، ولا أعرف من هو مؤلّفها، خصوصا أننا درسنا المناهج المصرية في غزة، ولم يكن الأدب الفلسطيني ضمن مواد المناهج، وكانت تُحذف كلّ صفحة تتحدّث عن فلسطين. ولذلك أضحت هذه الأغنية لازمةً تلازمني، كلّما أوغل الاحتلال ببطشه واعتدائه على أبناء شعبنا الفلسطيني، داخل فلسطين أو خارجها، كما حدث في بيروت في أثناء حصارها، والذي بسببه نظم الشاعر الراحل، أحمد دحبور، هذه الأغنية الخالدة، لكي تنضمّ إلى أغنيات كثيرة، لامست وجدان الشعوب والمواطنين المطحونين، وعبّرت عنهم وعن مشاعرهم وأحلامهم، وحتى عن عاداتهم وتقاليدهم.
ويؤكد كثيرون أنّ هذه الأغنية التي حفظها الشارع العربي بعامّة لم يكن أحدٌ يعرف مؤلّفها سنوات طويلة، مثل قصيدة "قصّة الأمس" التي غنّتها أم كلثوم، ولم يعرف شاعرها إلا متأخّراً جداً، وهو أحمد فتحي، وإن كان لا أحد يستطيع التنبّؤ بالأسباب التي أدّت إلى أن تكون قصائد دحبور المغناة تحوز هذه الشهرة ومجهولة المصدر، إلى درجة أن يُلصق بعضٌ من شعره على زجاج خلفيّ لسيارة أجرة تجوب شوارع تونس.
الواضح أن ذلك لم يكن يشغل الشاعر المتواضع إلى درجة الإبهار، فهو لم يكن حريصاً على الشُّهرة، ووهب حياته كلّها من أجل الثورة الفلسطينية. ولذلك لم تلتصق أشعاره بمُغنٍّ مُعيّن، كما حدث مثلاً مع الشيخ إمام، وتكوينه ثنائياً فنياً مع أحمد فؤاد نجم، وكذلك محمد الماغوط ودريد لحام. وكان يكفي أحمد دحبور أن أشعاره تصدح بها حناجر شعبه والشعوب العربية كافّة، فكان إنتاجه الشعري في خدمة المسار الثقافي لمنظمة التحرير الفلسطينية. وعلى الرغم من ذلك، وعلى الرغم من أنّه عاش حياة متواضعة مادياً، وكان بعيداً عن الشهرة، إلا أنّه لم يقابَل إلا بالتجاهل والتهميش، وظلّت جهود قليلة تبذل لجمع إنتاجه الشعري المندثر، مثل ما قام به الشاعر مراد السوداني. ولم يفرح الشاعر دحبور، ولم يبتهج بطبعةٍ فاخرة لأعماله الشعرية، إلا قبل وفاته بأسابيع، حيث قُدّمت له وهو على سرير المرض، على شكل كتابين، وقد وضعهما على باب غرفته في المشفى، لكي يراهما مرتادوه، ويعرفوا أنّ شاعراً مُقيماً في الغرفة يلفظ أنفاسه الأخيرة، بعد حياة طالما بثّ فيها الأمل، وحثّ أهلها على شحذ الهمم، كما فعل في قصيدة "اشهد يا عالم"، والتي جاءت في وقت مناسب سياسياً.
وكالعادة، عانى دحبور من الإهمال، مثل كثيرين من أدباء فلسطين وشعرائها، وكأن مزمار الحي لا يُطرب، على الرغم من أنّه كان معروفاً في الوطن العربي أنه شاعر الثورة وابنها. وأذكر أنّ الشاعر العماني، سيف الرحبي، سألني في لهفةٍ عنه ذات اتّصال، حين علم أنّني من غزّة التي حط بها الشاعر زمناً، وقد أشاد به، وبصداقةٍ متينة بينهما. ودأبُنا هذا مع مبدعينا، مثلما فعل أبي إبّان انتفاضة الحجارة، وحيث كان الجنود يبحثون عن أغاني الثورة، في أشرطة الكاسيت والكتب والمنشورات، فحفر أبي حفرةً ودفنها بعد تغليفها بالمشمع السميك، ليحميها من التلف، وحين رحلنا عن البيت، استخرج أبي أمواله من باطن الأرض، وترك ثروة أكبر في حفرةٍ مجاورة.
سما حسن
سما حسن
كاتبة وصحفية فلسطينية مقيمة في غزة، أصدرت ثلاث مجموعات قصصية، ترجمت قصص لها إلى عدة لغات.