جورج أورويل: قليل من الهواء المنعش

28 نوفمبر 2017

رسم جورج أورويل على جدار في شارع ببريطانيا (5/2/2016/Getty)

+ الخط -
عشية نشوب الحرب العالمية الثانية، كتب جورج أورويل روايته "قليل من الهواء المنعش"، في شتاء 1938 - 1939، في مراكش، إثر خروجه من المستشفى بعد إصابته بالسلّ. وهو لا ريب سيفاجئ القارئ الذي يتعرّف إليها للمرّة الأولى، بنَفسها الرؤيوي الذي ميزّ روايته التالية الأكثر شهرة، "1984"، وبموضوعاتها التي ترى مستقبل البشرية قاتما، محكوما بالهلاك في ظل أنظمةٍ شموليةٍ مستبدّة، وذلك على الرغم مما تتميّز به من حيويةٍ وسخريةٍ وطرافة.
بطل الرواية يدعى جورج باولينغ، 45 عاما، قبيح الشكل، ينتظر طقم أسنان جديدا، وبدين بكرشٍ هائلة. متزوج من هيلدا التي تشكو باستمرار ارتفاع الأسعار، وله ولدان شقيان جدا لا يطاقان، هما لورنا ابنة الحادية عشرة سنة، وبيلي ابن السابعة. ينتمي جورج إلى الطبقة الإنكليزية الوسطى، وهو يشكو سوء الأحوال، ويشبّه الشارع، حيث يحيا، بممرّ طويل داخل سجنٍ كبير، تحفّه منازل متهاوية، تملكها مجموعة عقارية تسلّط على رقاب مستأجريها سيوفَ الرهونات العقارية وتهديداتها بالطرد.
يلعب جورج هذا دور الراوي، فيخبرنا بسخريةٍ إن ما من امرأة ستعاود النظر إليه مرة ثانيةً إنْ لم يدفع لها، فيما هو يحفّ كرشه الهائلة بالصابون في الحمام، أو يعبّر عن خوفه من المجنون هتلر، ومن حربٍ محتملةٍ قد يشعلها الأخير، حين يجول في العاصمة لندن (نحن في العام 1939)، منزلقا من ثم إلى كابوس، أو بالأحرى إلى رؤيا، يتخيّلها عن العاصمة الإنكليزية المشتعلة بنيران القصف الألمانية، والتي تشبه، إلى حدّ بعيد، المصير الأسود الذي ستعيشه لندن، بعد مرور عام فقط، خلال الحرب العالمية الثانية.
في الفصول اللاحقة، نكتشف سيرة جورج باولينغ منذ طفولته الأولى، وصولا إلى لحظة تعرّفنا إليه في مطلع الرواية. وعبر صداقات هذا الأخير، علاقاته ومحيطه، سترتسم أمامنا صورةٌ معبّرةٌ ودقيقةٌ عن الأحياء والضواحي الأقل ألقا ورفاهيةً في عاصمة إنكلترا والإمبراطورية البريطانية. فنحن هنا في عالم الطبقات الكادحة الخائفة من فقدان عملها أو المنزل الذي يؤويها، أو حتى الاثنين معا.
من خلال مونولوج طويل، يعود جورج، الموظف الصغير الذي يعتاش من عمولة المبيعات التي يحقّقها، أربعين عاما إلى الوراء، وهي ذريعةٌ يُظهر لنا من خلالها الكاتبُ كم تغيّر العالم وتبدّلت أحواله مع حلول القرن العشرين، فالراوي المتحدر من عائلة حانوتيين، يملكون دكاكين صغيرة في قريةٍ في ريف لندن، قد عاش الحرب العالمية الأولى، وسيلة تحرّر من وسَطه وبيئته، بيد أن هذا التحرّر لم يصحبه النجاح الذي كان يأمل، لا على المستوى المهني، ولا على مستوى الشخصي. ومع ذلك، لم يزل جورج باولينغ راغبا في التمتّع، ولو قليلا، بالحياة.
جردة ماضيه هذه ستُري الراوي كم اختلفت حياتُه عن حياة أهله، وكيف ترك عالمُ القرن التاسع عشر، الصعب وإنما الآمن، مكانَه للقرن العشرين، حيث التنافس والعنف وكراهية الآخر، وهو ما أثبتته الحربان العالميتان، الأولى والثانية، وما سيعالجه أورويل لاحقا في روايته "1984": الحرب المستمرة أداةً لقمع الداخل.
سيحبّ قارئ أورويل هذه الرواية التي تدعوه، كما في سائر أعمال الكاتب المعروف، إلى التفكير، إلا أن هذه تتضمن أيضا صفحاتٍ ممتعةً وطريفةً ومثيرةً للضحك، خصوصا عندما يعود الراوي إلى عالم طفولته الصغير، أو حين يسخر من هتلر أو من ستالين. لا عودة ممكنة إلى الماضي، يقول لنا أورويل، "لا يمكننا إرجاع يونس إلى بطن الحوت"، لذا تنبغي العودة إلى الهواء الطلق، وقبول "قليل من الهواء المنعش".
نجوى بركات
نجوى بركات
كاتبة وروائية لبنانية ومؤسسة محترف "كيف تكتب رواية"