الهدية المسمومة

الهدية المسمومة

10 أكتوبر 2017

السبسي.. ليس في حاجة إلى كرنفال صدم التونسيين (10/6/2017/الأناضول)

+ الخط -
الهدية التي قدمها بعضهم، أخيرا، إلى الرئيس التونسي، الباجي قايد السبسي، كانت "مسمومة". صحته جيدة، لكن صورته تضرّرت كثيرا بسبب الصور التي نقلتها وسائل الإعلام التونسية، ووفرت مناخا ملائما لكثيرين، خصوصا على صفحات التواصل الاجتماعي الذين انتقدوا بشدة الرئيس التونسي.
تمثلت الهدية في تنظيم استقبال شعبي للسبسي، في أثناء زيارته ولاية سوسة أخيرا، جاء شبيها بما كان سائدا في عهود سابقة، خصوصا في مرحلة حكم الرئيس بن علي. هل كان رئيس الدولة في حاجة إلى ذلك الاستعراض الذي جند له خلق كثيرون، بمن فيهم تلاميذ المدارس الابتدائية؟
على الرغم من نبرة التشاؤم الرائجة بشأن المسار الانتقالي في تونس، إلا أن بعض ردود الشارع التونسي تدل على عمق التأثير الذي أحدثته الثورة في الأذهان، وفي تعامل المواطنين مع بعض الأحداث ذات العمق الرمزي. أصبح التونسيون يمجّون المظاهر والصور التي كانت تمطرهم بها وسائل الإعلام يوميا سنوات طويلة. توفرت حاسة مضادة لكل ما يشتم منه رائحة النفاق السياسي والدجل الإعلامي، وكل ما يوحي برغبة خفية في صناعة صورة الزعيم الأوحد والأب الحنون والرئيس القائد.
هناك رفض واسع للشعارات الركيكة المشحونة والمستبطنة لعبادة الشخص، والرامية إلى تعميق الهوة بين المسؤول السياسي وشعبه. حصل هذا التحول المهم خلال السنوات السبع التي مضت، من دون أن ينتبه بعضهم، مثل الذين صمموا زيارة السبسي إلى سوسة، وظنوا أنهم يحسنون صنعا، لكنهم ارتكبوا خطأ جسيما، عندما غذت مشاهد الزيارة الشكوك بشأن احتمال إعادة عجلة التاريخ إلى الوراء، في ظرف اقتصادي وسياسي صعب ومعقد، وأصبحت البلاد مسكونةً بالشكوك والهواجس، إذ كل خطوة يقدم عليها هذا المسؤول أو ذاك يمكن أن ترتد عليه، من حيث لا يحتسب. فالتونسيون في أشد الحاجة لمن يعيد إليهم الثقة في الماسكين بأجهزة الدولة، وفي مقدمتهم رئيس الجمهورية الذي لا تزال لوظيفته مكانة خاصة في المخيال الجماعي، على الرغم من أن الدستور الجديد قلص كثيرا من صلاحياته السابقة.
لم تعد صناعة صورة الرئيس فنا فقط، لكنها أصبحت أيضا علما له قواعده وأصوله ومخابره وخبراؤه. كما أن تقنيات بناء صورة الرئيس في نظام دكتاتوري قائم على الحكم الفردي تختلف تماما في السياق الديمقراطي. في الحالة الأولى، يكون هو اللاعب الوحيد الذي تسلط عليه جميع الأضواء، وتنسب إليه كل الفضائل والإنجازات، ويقع إضفاء الخوارق والحكم على أقواله وأفعاله، ويقع النفخ في صورته، حتى يسود الاعتقاد بأنه الرزاق والمحيي والمميت، ولا راد لحكمه وقضائه. كما يتم حجب كل الذين حوله، أو كانوا معه أو ساعدوه في أي شيء. لا أحد معه في المرآة، ولا يعرف عنه إلا ما يزيده قوةً ورهبة وغموضا لدى رعيته.
أما في النظام الديمقراطي، فتتشكل هيبة الرئيس من عناصر أخرى. تبدأ الحكاية قبل انتخابه، من حيث قدرته على الإقناع، وأسلوبه في الحديث والخطابة، وكيفية تعامله مع وسائل الإعلام ودهاء الصحافيين. ويلعب مظهره الخارجي دورا حاسما في إلهاب الخيال الجماهيري. كل شيء بمقدار، ابتسامته، نظراته، قدرته في الرد على خصومه، علاقته بعالم النساء، وخصوصا زوجته إلى جانب مكانة الأسرة عنده.
وبعد انتخابه، تكون المحافظة على ثقة شعبه فيه بمقدار التزامه بتعهداته، ومدى نجاحه في اختيار مساعديه، وبحجم شفافيته وتواضعه وعدم تورطه في نهب المال العام، وخصوصا انفتاحه على الناس، وسماعه شكاواهم وقضاءه حاجاتهم في كنف العدل والقانون. ومن المهم أيضا أن يصارح شعبه، ولا يخفي عليه حقيقة الأوضاع العامة. وأن يكاشفهم ويشركهم فيما يهمهم، وأن يحيطهم علما بأوضاعه الصحية، وأن يرفع أي لبس أو شكوك حول ممارساته أو محيطه العائلي والحزبي والسياسي.
بعد أن التحقت تونس بدائرة الديمقراطيات الناشئة، لا يجوز أن يحاول بعضهم تحويل رئيس منتخب انتخابا حرا إلى نسخة مشوهة، تعيد إلى الأذهان ماضيا كريها. لم يكن السبسي في حاجة لهذا الكرنفال الذي صدم تونسيين كثيرين.
266D5D6F-83D2-4CAD-BB85-E2BADDBC78E9
صلاح الدين الجورشي

مدير مكتب "العربي الجديد" في تونس