التظلم... التعبئة والتعبئة المضادّة

التظلم... التعبئة والتعبئة المضادّة

02 يناير 2017
+ الخط -
أزاح الربيع العربي الطبقة العازلة بين عامة الجمهور العربي والفئات التي تقبع في قاع الهرم الاجتماعي. انكشفت الطبقة المسحوقة أمام الشاشات، متجاوزةً الإعلام العربي الرسمي الذي لم يولِها أهمية، على كثرة مشكلاتها وخطورتها، فكان أن انفجرت زاحفةً، خلفت قياداتٍ متنوعة المشارب، ومتناقضة المصالح، مالئة الطرقات والميادين، مطالبة بالكرامة والحرية.. وأحياناً الرأفة.
في موسم الربيع العربي الأول، كانت الأمور أكثر وضوحاً، من حيث تحديد الخصم على الأقل. النظام الرسمي العربي، ونخبته التي تحمي الفاسدين، وتشاركهم احتكار المنافع العامة، حتى غدت الثروة الوطنية متكدسة في جيب قلة رأسمالية جشعة. أدى هذا الاحتكار للثروة إلى وجود طبقات متظلمة ومحرومة، تنتظر منقذها، فتمثل لها محمد البوعزيزي على صورة "نبي" للثورات. لكن الحقيقة أن الشارع لم يكن موحداً خلف قيادة سياسية ذات إيديولوجية واضحة ومحدّدة، بل كانت الوحدة مختزلة في هدف إزاحة النظام الظالم، ثم التفكير فيما ما بعده. وهذا ليس عيباً في الثورات، ولا في الثوار، فلا أحد يدّعي أن للثورات كتيباً خاصاً تسير عليه، حتى تصل إلى خط النهاية بنجاح، كما لا أحد يدّعي المقدرة على التنبؤ بساعة انطلاق الناس للاحتجاج والتظلم.
من سوء حظ الثوار والثورات العربية أن قياداتها السياسية، أو من أريد لهم تزعم الحراك، ولو من خلف الشاشات، أو في قاعات الفنادق الفاخرة في باريس، وغيرها من العواصم، لم تتطابق لغتهم مع لغة الشارع. حملت النخبة هم التغيير السياسي، وخرجت الطبقة للتظلم على الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية المجحفة. لا يندرج هذا التفريق على مبالغة، أو انحياز ضد النخب السياسية، عبر اتهامها بعدم المقدرة على تمثيل الشارع ومطالبه، لكنه محاولةٌ لتفسير أسباب الفشل، لا أكثر. فشل في الانتقال من حال مزرٍ إلى حال أقلّ رداءة، فقد قفزت نخبة هامشية وطفيلية على المطالب الاجتماعية والاقتصادية، وأصرّت على التعبئة عبر خطاب طائفي بغيض، وسعي حثيث على استجلاب الأجنبي، ودفعه إلى تسليح الجماهير، رغبة في الانتقام من النظام من جهة، وطمعاً في الجلوس مكانه من جهة أخرى، فحدث ما حدث.

ضيع هؤلاء الفرصة، بانتهازيةٍ مقرفة، وفشل ذريع في المقدرة على الصمود في الميدان بخطاب إصلاحي اجتماعي وسياسي، حيث تداعت النخبة باتجاه مستنقع التعبئة الطائفية، عبر مجاراة النظام ودعايته السياسية في بعض الدول، أو من خلال رغبتها الحثيثة في منافسة الجماعات الجهادية الأكثر تطرفاً، والأكثر مقدرةً على الثبات في القتال، وفي اختراق "نفوس" الجماهير التي قنطت من كل ما على الأرض فاتجهت إلى السماء.
لم تكن الجماهير، أو بعض ممن خرجوا للتظاهر، مهتمين بهوية النظام السياسي وخلفيات رموزه المذهبية، لكن قنوات فضائية، وخلفها الدول الداعمة، أصرّت أن الحراك الجماهيري ذو خلفية طائفية، وتبعها في ذلك مثقفون وسياسيون كنا نظن وهلة بأنهم سدنة العلمانية. إذن، دُفنت التظلمات الاقتصادية والاجتماعية تحت قواعد الهويات المذهبية والقبلية. دع عنك المشهد في سورية، فلنذهب مباشرةً نحو أمثلةٍ أقلّ حساسية لكنها أكثر دلالة، حيث يمكننا المقارنة بين المظاهرات في كل من الكويت والبحرين، وكيف جرت التعبئة الجماهيرية، والتعبئة المضادة من النظام.
في الكويت، انحدرت المطالبة من أنها تنشد المساواة بين المواطنين، لتصبح ذات طابع هوياتي، بين حضر وبدو. في البحرين، اتسمت وارتسمت المواجهة بصبغةٍ مذهبيةٍ بين السنة والشيعة، لأن الطرفين أرادا لها ذلك. في حين أن التظلم كان على الاستئثار بالفرص الاقتصادية واللامساواة بين المواطنين التي أحدثها احتكار النخبة السياسية للثروة الوطنية، كما أن ردود فعل الأنظمة في المشرق العربي كانت متطابقة، من حيث إيداع المعارضة السجون، وسحب الجنسيات عن بعض قيادات المعارضة واتهامها بالعمالة للخارج.
ضمن ورقة لوران غاير، في كتاب "عالم اللامساواة"، تحليل للثورات والاحتجاجات العالمية، وكيف تحولت إلى نزاعات هوياتية وحروب أهلية، ومنها الربيع العربي. تناول فكرة عدم اهتمام السياسيين الذين يقودون الحركات الجماهيرية باللامساواة العمودية التي تتعلق بتفاوت الثروة بين الأفراد والعائلات الغنية والفقيرة، بقدر اهتمامهم بالتفاوتات الأفقية التي تحيل إلى الفروق في الوضعية السياسية، وفي الوصول إلى الموارد بين المجموعات المحددة ثقافياً.
أخيراً، هذه الملاحظة بالغة الأهمية، لكونها تنزع عن التظلمات سلاحها الأقوى، المتمثل في مقاومة اللامساواة. الأدهى أن الجماهير بعد النزوع إلى التعبئة على أساس هوياتي تصاب بزهايمر سياسي، فتنسى مظالمها الأساسية لصالح غريزة الانتقام.
59C609B9-D3BD-480F-B605-2AC47CF69F0B
محمد الصادق

كاتب سعودي، مؤلف كتاب "الحراك الشيعي في السعودية"