"بي بي سي": أبعد من الوصفات الجاهزة

13 سبتمبر 2016

على مقر تلفزيون بي بي سي في لندن (Getty)

+ الخط -
أفاد تقرير، صدر أخيراً، عن جمعية التعديل الانتخابي في بريطانيا، بأن 28% فقط من المشاركين في عيّنة استطلاع رأي قالوا، قبل أيام قليلة من الاستفتاء على الانسحاب من الاتحاد الأوروبي، إنهم حصلوا على معلومات وافية حول الاستفتاء، وهي نسبة منخفضة جداً قياساً لشراسة الحملات الإعلامية والتغطية الكثيفة التي رافقت الاستفتاء. قال 34% من المستطلع رأيهم أن هيئة الإذاعة والتلفزيون البريطانية (بي بي سي) شكّلت المصدر الإخباري الأكثر ثقة بالنسبة لهم للاستعلام عن الاستفتاء، في أعلى نسبةٍ حصلت عليها وسيلة إعلامية بعينها. وفي حين بلغت نسبة الاستماع إلى "بي بي سي" من الفئة العمرية 65 وما فوق 41%، انخفضت النسبة لدى فئة الشباب بين 18-24 عاماً إلى 24% فقط مقابل 33% لوسائط الإعلام الحديث.
يؤكّد تقدّم حصة "بي بي سي" في نسب الاستماع لدى العينة المستطلع رأيها أهمية المرفق العمومي، باعتباره الأكثر أهلاً للثقة من المشاهدين والمستمعين، إلا أن التقرير نفسه يفيد بأن فئة كبيرة من المستطلع رأيهم اعتبروا أن المعلومات التي حصلوا عليها لم تكن وافيةً ودقيقة. غداة التصويت لصالح الانسحاب من الاتحاد الأوروبي، سجل دخول نسبةٍ مرتفعةٍ من البريطانيين على محرّك البحث (غوغل) للبحث عن معنى الاتحاد الأوروبي، مما يعني أن نسبة كبيرة من الناخبين الذين ربما يكونون قد حصلوا على معلوماتهم بشكل أساسي من المرفق العمومي لم يكونوا على معرفةٍ بماهية الاتحاد الأوروبي، على الرغم من تصويتهم لصالح الخروج منه.
تحمل النتيجتان المتضاربتان مؤشراً على فشل المؤسسة الإعلامية العمومية في القيام بمهمتها الأساسية، وهي تأمين معلومات دقيقة وسهلة المنال لمشاهدين ومستمعين لا يتمتعون بمستوىً متقدم من القدرة على فهم أمور معقدة، قرّرت مصير حياتهم. تعرّضت "بي بي سي" لحملة انتقاداتٍ واسعةٍ بعد الاستفتاء، لاتهامها بالهوس بمعيار التوازن في تمثيل طرفي الاستقطاب إلى حد تمرير الأكاذيب التي استندت إليها الحملة الداعية إلى الانسحاب، وأبرزها الادعاء بأن بريطانيا تقدّم كل أسبوع مبلغ 350 مليون جنيه للاتحاد الأوروبي، على حساب الإنفاق على قطاع الصحة العامة، وهو ما تبين بعد نتائج الاستفتاء أنه مجرّد خداعٍ باعتراف الطرف المروّج له.

دافعت "بي بي سي" عن خيارها تطبيقاً مبسطاً لمفهوم التوازن في تمثيل الأطراف، باعتباره أحد أبرز ميزاتها كخدمة عمومية، خصوصاً وأن المؤسسة لا تريد أن تتهم بدعم فريقٍ ضد آخر في استحقاق الاستفتاء الأوروبي، الذي أظهر انقساماً حادّاً في المجتمع. التبسيط نفسه تعتمده المؤسسة في تمثيل وجهات النظر المتضاربة في أزماتٍ معقدة، منها تمثيل النظام السوري، أسوة بمعارضيه في وقائع ثبت فيها تورّط النظام في تنفيذ عمليات قتل دموية واسعة في حق مدنيين. هل تستوي في الميزان تصريحات منظمات حقوقية عما يجري وردود مسؤولين من النظام ينفون المسؤولية أو حتى ينفون وقوع عمليات القتل برمتها، على الرغم من وجود معلومات ميدانية تؤكد العكس؟
تشكل نتائج الاستفتاء الأوروبي والنقد الواسع لأداء "بي بي سي" تحدّياً للخدمة العمومية لتطوير تطبيقاتٍ أكثر عمقاً وأقل تبسيطاً لمفهموم التوازن، بعيداً عن الوصفات الجاهزة التي تطبقها عادة المؤسسة في كل قضيةٍ تعالجها، مهما كانت طبيعتها، مما قد يقود إلى تقديم منبر للأكاذيب ومختلف أشكال الشعبوية في بعض الحالات. على سبيل المثال، إذا كان لديك ثلاثون خبيراً يقولون إن الانسحاب من الاتحاد الأوروبي سوف يحمل أضراراً جسيمة على الاقتصاد ومجالات العمل والمستقبل، فالمطلوب حرصا على التوازن إيجاد ثلاثين خبيراً يقولون إن الانسحاب سيكون فرصة كبيرة للاقتصاد ومستقبل البلاد، حتى ولو كانت الفرضية تستند إلى أكاذيب واضحة. إلى الوصفة الجاهزة، أضافت "بي بي سي" في تغطية الاستفتاء التعبيرات العاطفية، لتجاري المزاج الشعبي المحتدم، فتحولت التغطية إلى منتدىً لصراع الآراء: من الأكثر قدرة على التأثير وتأجيج مشاعر المحازبين أو إقناع المتردّدين؟ حضرت الآراء وغابت المعلومات.
يعيد النقد الواسع لتغطية "بي بي سي" الاستفتاء الأوروبي طرح السؤال بشأن ماهية الخدمة العمومية، وأشكال تطبيق التوازن في التعبير عن آراء أطراف النزاع، مع الحفاظ على دور الصحافيين الأساسي في تقصّي الحقائق. كما يطرح السؤال بشأن دور الصحافيين أنفسهم باعتبارهم لاعبين رئيسيين في اختيار المادة الصحافية وفي تأطيرها. قد تعكس الانتقادات لتغطية المؤسسة الاستفتاء الأوروبي حرصاً بلغ درجة الهوس بالتوازن، إلا أنها قد تعكس أيضا صراعاتٍ داخليةً بين الصحافيين الحاملين أنفسهم لتوجهات مع طرفي النزاع أو ضدهم، والذين قد يكونون مارسوا دوراً سياسياً في تأطير النقاش في هذا الاتجاه أو ذاك.
الصحافيون هم بالضرورة غير محايدين في خياراتهم السياسية والأيديولوجية على المستوى الشخصي. تفترض الخدمة العمومية ترفّع هؤلاء عن هذه الخيارات لدى تناولهم قضايا جدلية على درجة كبيرة من الأهمية، إلا أن تجربة التغطية الإعلامية الاستفتاء الأوروبي، الذي أثار انقساماتٍ حادة أخرجت الإعلام وجمهوره من العقلانية الباردة إلى ردود الفعل العاطفية والنزعات الشعبوية، أحدثت شرخاً في مفهوم الحياد المثالي، وسوف يكون على المرفق الإعلامي العمومي أن يعالج تداعيات هذا الشرخ، عبر ابتكار طرقٍ أكثر حداثةً وعمقاً من مجرد الوصفات الجاهزة.

A6CF6800-10AF-438C-B5B5-D519819C2804
فاطمة العيساوي

أستاذة لبنانية في جامعة إيسيكس البريطانية. ترأست بحثا في تأثير عملية الانتقال السياسي على الإعلام المحلي في دول الثورات العربية. صحافية مستقلة ومدربة وخبيرة في التشريعات الاعلامية في العالم العربي.