فرنسا في العاصفة

فرنسا في العاصفة

20 نوفمبر 2015
+ الخط -
فرنسا لن تشبه بعد اليوم ما كانت عليه قبل يوم الجمعة الدامي، 13 نوفمبر/تشرين الثاني، حين شهدت عملية إرهابية من طراز مختلف، وأكبر خرق أمني. صدمة ستظل تتفاعل إلى أمد طويل. ومثلما أدت هجمات 11 سبتمبر/أيلول 2001 إلى تغيير كبير في الولايات المتحدة الأميركية والعالم، فإن الجنون الداعشي الذي ضرب باريس في الصميم سوف يحفر عميقاً في الحياة الفرنسية السياسية والثقافية والاجتماعية، وليس مبالغة القول إن جراحه ستظل مفتوحة، ولن تندمل قريبا.
أول الضحايا ستكون الحرية. وكما هو معروف في المجتمعات الديمقراطية، فإن الحرية ليست بدعة، أو هدية من الدولة للمواطنين، بل هي من صنع المواطنين أنفسهم، وتقوم على استقلالية الفرد عن الدولة، على الرغم من أن الدولة تعد بمثابة الأم الشرعية لكل مواطن، تُعنى بكل شؤونه من الألف إلى الياء، لكنها لا تستطيع التدخل في أبسط شأن من شؤونه. وأمام حدث من هذا القبيل، لن يكون في وسع الدولة في فرنسا أن تتصرّف كما كان الأمر عليه في السابق، لا بل إن المواطن نفسه سوف يطلب من الدولة أن تتدخل في شؤونه، أن تراقبه في الشاردة والواردة، تحت بند رعايته أمنياً. ومن أجل مواجهة الإرهاب، سيضطر الفرنسيون إلى التنازل عن جزء من حرياتهم، وهذه معادلة لم تكن، في يوم من الأيام، لصالح الحرية، حتى لو استندت إلى هدف سامٍ، هو حماية أرواح البشر، لأن السلطة لا تتوقف عند حد، حينما يصبح القانون في يدها، وفرنسا ليست يوتوبيا، بل إنها شهدت بوادر ديكتاتورية مع الرئيس السابق، نيكولا ساركوزي، الذي جرّب كثيراً أن يتصرّف كإمبراطور، ليصبح فوق جميع السلطات، وقد حاول، في الأيام الأخيرة، أن يستغل الاحداث الإرهابية، من أجل تحقيق مكاسب انتخابية في لحظةٍ، تشكل الوحدة الوطنية سلاحا فعالا في الرد على الإرهاب.
وفي حال اتسعت مساحة المقاربة الأمنية للهجمات الإرهابية، فإن فرنسا مقدمة على جملة من التعديلات الدستورية التي سوف تنعكس حكماً على القوانين المدنية كافة، وهي قوانين تعد ناظماً للمكاسب التي حققها المجتمع الفرنسي، طوال قرنين من عمر الثورة الفرنسية، وقامت على الانفتاح وتعزيز دولة القانون والمؤسسات وحقوق الإنسان والاعتراف بالآخر. وهذا ليس من باب التخمين، فقد كان خطاب الرئيس الفرنسي، فرانسوا هولاند، في فرساي، يوم الاثنين الماضي، غنياً بالدلالات، حين أعلن أن فرنسا تعيش حالة حرب، وستبقى تحت حكم الطوارئ ثلاثة أشهر، ولكي لا يعلق العمل بالدستور، فإنه اقترح تعديلات دستورية ذات طبيعة صارمة، وعلى الرغم من أن الهدف المباشر للتعديلات هو تحصين البلد على المدى القريب، فإنها لن تكون بلا أضرار، وستصيب أبرياء، وتترك آثاراً سلبية على المواطنين الفرنسيين المنحدرين من أصول أخرى، وخصوصا الجاليات العربية والإسلامية. وعلى المقلب الآخر، ستصب بعض الإجراءات في صالح اليمين العنصري المتطرف. وأبرز نتيجة للعمليات الإرهابية، في المدى القريب، أنها قدمت لهذا اليمين خدمة لا يمكن تقديرها بثمن، فهو الذي يعمل، منذ أوائل الثمانينيات، من أجل تشكيل رأي عام فرنسي معادٍ للأجانب، لم ينجح في ذلك، بسبب وعي المجتمع الفرنسي، في حين جاء من ينجز الجزء الأكبر من هذه المهمة نيابة عنه، ويقدّم المبرر والتغطية لكل الابتذال العنصري، الذي طالما رفضه الفرنسيون الذين يعتبرون الاعتداء على نمط حياتهم خطاً أحمر.
ووسط حالة من الصدمة والألم، يطغى في الشارع الفرنسي شعور بضرورة الانتقام للضحايا، وهذا يتطلب قدراً كبيراً من الحكمة، لكي لا يقع الانتقام على مواطنين أبرياء، بينما يعيش الإرهابيون طلقاء في سورية والعراق وأماكن أخرى من العالم.