ليست سايكس ـ بيكو جديدة

ليست سايكس ـ بيكو جديدة

12 يناير 2015
+ الخط -

لا يشير مصطلح "سايكس ـ بيكو"، المتداول بكثرة في الخطاب السياسي العربي، إلى الاتفاقية الشهيرة فقط، وتم بموجبها تقسيم بلدان الهلال الخصيب، بل إنه بات مفهوماً يدل على كل مسعى استعماري لتقسيم الوطن العربي، ويشمل كل المخططات الاستعمارية لمزيد من التجزئة والتفتيت. مع الانهيار الذي حصل للدولة في العراق وسورية، وظهور بوادر التقسيم داخل الكيانات القائمة في الهلال الخصيب، راج حديث حول وجود سايكس ـ بيكو جديدة، أي مخطط استعماري جديد، تقوده الولايات المتحدة وحلفاؤها، هذه المرة، لتفتيت هذه الكيانات، وتحويلها إلى مجموعة من الكانتونات الطائفية. لكن الأمر لا يبدو بهذه البساطة، وقراءة الواقع على الأرض تحكي وجود تعقيدات أكبر من قدرة طرف واحد على فرض رؤيته على جغرافيا هذه المنطقة.
في زمن سايكس ـ بيكو، بداية القرن المنصرم، كانت قوتان منتصرتان في الحرب، تتفقان على تقاسم النفوذ، مع انهيار الامبراطورية العثمانية، وتمكنتا من بسط نفوذهما وتنفيذ اتفاقهما بسهولة، في ظل موازين القوى آنذاك، فأخذت فرنسا نصيبها من الأرض العربية، وكذلك فعلت بريطانيا، أما في موازين القوى القائمة اليوم، فليس الأمر بهذه السهولة، ووجود مخطط تقسيمي لا يعني القدرة على تطبيقه، فالقوى موزعة بين أطراف محلية وإقليمية ودولية، وهي تتنافس على رسم الحدود الجديدة، وتقاسم النفوذ، ضمن مخاضٍ عسير.

الولايات المتحدة هي المتهم الأول بتبني مخططات تقسيمية للمنطقة. وهنا، يتم استحضار مشروع المحافظين الجدد، وما سمي، حينها، مشروع الشرق الأوسط الكبير، القائم على تغيير معادلات المنطقة بالقوة الأميركية، لكن هذا المشروع اصطدم بالحائط، وقد شهدنا فشله المدوي في العراق، وأيقن الأميركيون أن لقوتهم حدوداً. وهكذا، جاءت الإدارة الأميركية الحالية لتعمل على تقليل حجم التدخلات، خصوصاً مع الأزمة الاقتصادية المزعجة، ومحاولة الحفاظ على الخطوط العريضة للمصالح الأميركية في المنطقة، من دون الغرق في تفاصيلها.
صحيح أن أميركا قامت ببناء تحالف دولي عريض لمحاربة تنظيم الدولة الإسلامية، لكن حجم العمل الأميركي ضد تنظيم الدولة محدود بالضربات الجوية، والاستراتيجية الأميركية تتكئ على الحلفاء الإقليميين، وبناء جيوش محلية لمواجهة تنظيم الدولة، وحتى لو حصل تدخل بري، فهذا لا يغيّر من الاعتماد على الحلفاء (نذكر الاعتماد على الصحوات في عز وجود الجيش الأميركي في العراق لمحاربة الجهاديين)، كما أن التدقيق في سلوك الإدارة الأميركية وخطابها يوضح وجود ارتباك في التعاطي مع ملفات المنطقة، وفي ظل حالة الارتباك هذه، لا يمكن الجزم بوجود مخطط تقسيمي جاهز، تسعى أميركا إلى تطبيقه على الأرض، ويبدو أنها تميل إلى المعالجات اليومية وفق التطورات، من دون وجود تصور مسبق لما يجب أن يكون عليه الوضع، حتى مع وجود أفكار تقسيمية، تخدم إسرائيل داخل مؤسسة الحكم الأميركية.
الأهم من الحديث حول طبيعة الدور الأميركي في هذه المرحلة، ووجود تصورٍ أميركي لمستقبل المنطقة من عدمه، هو عدم قدرة أميركا على التفرّد بتحديد مستقبل المنطقة، على غرار بريطانيا وفرنسا في أوائل القرن العشرين، فأميركا اليوم ليست القوة العظمى الوحيدة، إذ إنها الأقوى، ولكن بين مجموعة قوى كبرى، وقد أثبتت الأزمة السورية قدرة الروس والصينيين على تعطيل الرغبات الأميركية، ومستقبل المنطقة سيظل رهناً لتوازنات القوى الدولية، التي لا يمكن للأميركيين تجاوزها. أيضاً، لا بد من ملاحظة دور القوى الإقليمية المتعاظم في المنطقة، فإيران وتركيا ودول الخليج تلعب دوراً محورياً في تحديد مستقبل الهلال الخصيب، بدعم الجماعات المحلية المتصارعة، وهي تسعى إلى حفظ مصالحها وتعزيز نفوذها، وقد استفادت القوى الحليفة لأميركا من انسحابها من التفاصيل، لتملأ الفراغ، وتتخذ بنفسها قرارات مهمة، في إطار صراعات المنطقة، ولا يمكن تصور حلول لقضايا الإقليم تُفرض من أعلى، من دون مساهمة القوى الإقليمية.
يُغفل بعضهم دور اللاعبين المحليين، أو الجماعات خارج الدولة، التي تعيد، بشكل مباشر، رسم الخريطة يومياً عبر صراعاتها، ويرتبط بعض هذه الجماعات بالقوى الإقليمية مباشرة، فيما يسعى بعضها الآخر إلى تحقيق أجندة خاصة، مستفيداً من التناقضات الإقليمية، وفي كل الحالات، يبرز دور هذه الجماعات، بوصفها قادرة على المساهمة المباشرة في إعادة تشكيل المشهد، وهي نتاج تآكل الدولة في الهلال الخصيب، وعدم قدرة الأنظمة القائمة على بسط نفوذها بالكامل، وهذه الأنظمة (مثل النظامين العراقي والسوري)، تحولت من مسيطر إلى لاعبٍ في الساحة، يسعى إلى استعادة السيطرة، ولا ينجح.
ولا يعني القول بتعقيد المشهد وتعدد اللاعبين فيه، نفي خطر التقسيم، لكنه يعني الإشارة إلى أن التفتيت لا يتم وفق مخطط واضح، تنفذه قوة مهيمنة، كما في سايكس ـ بيكو القرن المنصرم، بل هو نتاج اشتباك عوامل داخلية وخارجية، منها صراع النفوذ بين قوى دولية وإقليمية، يبدو الحسم فيه لطرف بعينه بعيد المنال، والأساس في هذا التفتيت، وهو ما لا يُلتَفت إليه كثيراً، ضعف شرعية الكيانات العربية، ما أدى إلى انحلال الدولة أو تآكلها، وبروز جماعات خارج الدولة، تمثل هويات السكان الأولية، وتقيم صراعاً أهلياً يسمح للقوى الإقليمية والدولية بالتدخل والصراع على النفوذ، ولا يسمح لأحد من الأطراف بادعاء القدرة على تحقيق النصر النهائي والكامل.

دلالات

9BB38423-91E7-4D4C-B7CA-3FB5C668E3C7
بدر الإبراهيم

كاتب سعودي. صدر له كتاب "حديث الممانعة والحرية"، و"الحراك الشيعي في السعودية .. تسييس المذهب ومذهبة السياسة".