إيران وأميركا في العراق .. الديمقراطية والسيادة

إيران وأميركا في العراق .. الديمقراطية والسيادة

25 اغسطس 2014

الديمقراطية لا تستقيم بلا سيادة وطنية (البرلمان العراقي/2005/Getty)

+ الخط -


تغيّر وجه العراق، والمنطقة العربية برمتها، بعد الغزو الأميركي عام 2003. قبله، كان العراقيون يعانون من نظامٍ استبدادي، على رأسه طاغية مغامر، أدخل العراق في نفق مظلم على كل الأصعدة. وبعده، انتقل العراق إلى مرحلة انهيار الدولة في ظل الاحتلال، وتفكك المؤسسات، وحولته معادلة الحكم الجديدة، المتمثلة بنظام المحاصصة الطائفية، إلى ساحة صراع للاعبين الإقليميين والدوليين، وبات القرار السياسي فيه رهن التفاهم بين اللاعبين الكبار.

قامت الولايات المتحدة بمهمة تفكيك الدولة في العراق، وفصّلت المعادلة الجديدة، على مقاساتٍ طائفية، ودار الحديث حول عهد الديمقراطية الجديد في العراق، وأراد الأميركيون بسط نفوذهم، لكن كثرة أخطائهم، والمقاومة التي واجهوها، أضعفت هذا النفوذ، وأجبرتهم على سحب قواتهم، بعد تأكد فشلهم.

إيران أصبحت، تدريجياً، اللاعب الأساسي، وصاحب النفوذ الأكبر في عراق ما بعد صدام حسين، وتمكن الإيرانيون من الاستفادة من الفشل الأميركي، وتعزيز حضورهم داخل العملية السياسية، عبر الأحزاب الشيعية، التي على الرغم من اختلافاتها البينية، تتمتع بعلاقات وطيدة مع الإيرانيين، وإنْ تفاوتت قوة العلاقة بين حزب وآخر. إيران عملت على تحقيق مصلحتها، وبسط نفوذها في العراق، لكن هذا الأمر لم يكن في مصلحة العراقيين والعرب، إذ إنها دعمت أحزاباً طائفية، أسهمت في تأجيج النزاع الطائفي بين المكونات العراقية، وفي انهيار ما تبقى من الدولة، وتحلل الوحدة الاجتماعية.

حاول بقية اللاعبين الإقليميين القيام بأدوار مختلفة في العراق، خلال السنوات الماضية، لكن حسم المسائل الكبرى في العراق ظل خاضعاً للنفوذ الإيراني، الذي يتقاطع (رغم العداوة) مع الرغبة الأميركية في استقرار الوضع العراقي. ما شهده العراق في الانتخابات الأخيرة وقبل الأخيرة يشير، بوضوح، إلى غياب استقلالية النخبة السياسية العراقية، بجميع مكوناتها، وحجم التنافس الإقليمي والدولي، وقدرة التقاطع الإيراني الأميركي، على الحسم داخل العملية السياسية، بغض النظر عن نتائج الانتخابات.

في انتخابات عام 2010، حظيت قائمة العراقية، بزعامة إياد علاوي، بأكبر عدد من الأصوات، وتفوقت على ائتلاف دولة القانون الذي يترأسه نوري المالكي. كان علاوي مدعوماً من تركيا والسعودية وقطر وسورية، وكان الأميركيون يفضلونه، فيما كانت إيران تقف في صف المالكي، لعدم ثقتها بعلاوي. تعطل تشكيل الحكومة لأشهر بعد الانتخابات، وخضعت العملية السياسية للتجاذبات الإقليمية والدولية، واستخدمت إيران نفوذها في إقناع مقتدى الصدر بتجرع السم ودعم المالكي، بعد أن خاض ضده معركة في البصرة، ورفض عودته رئيساً للوزراء.

أفلح الإيرانيون في إقناع الصدر، الذي كان له دور مرجح بسبب الأصوات التي حصدتها كتلته، بتوحيد القوى الشيعية وراء المالكي. في الوقت نفسه، اقتنعت إدارة أوباما بالمالكي، في ظل رغبتها في تأمين انسحابها من العراق، وبوجود رجل قوي يمكنه تأمين الاستقرار عقب انسحابها، فتراجعت عن دعم علاوي، وتراجع الأسد بعدها ليدعم المالكي، على الرغم من الخلاف الكبير بينهما، وخسرت القوى الإقليمية الأخرى رهاناتها، وتوجت المحكمة الدستورية التقاطع الإيراني الأميركي، بالالتفاف على فوز علاوي، وترجيح ترشح المالكي لولاية ثانية.

وفي انتخابات العام الجاري، فازت كتلة المالكي بفارق كبير عن بقية منافسيها، وبدا أن الإيرانيين يدعمون المالكي لولاية ثالثة، لأنه الرجل الأقوى بالنسبة لهم داخل الحالة الشيعية، ولأن موقفه من سورية وملفات الإقليم الملتهب وافق الرؤية الإيرانية. لكن، يبدو أن سيطرة داعش على الموصل، وتعاظم نفوذها، واستشعار الإيرانيين خطرها، غيّرت رؤية طهران تجاهه، فيما كان الأميركيون يحمّلونه مسؤولية الفشل في مواجهة داعش، بسياساته التي همّشت السنة، وضمنت لداعش تمدداً داخل الوسط السني. جاء التقاطع الإيراني الأميركي، هذه المرة في مواجهة داعش، ليفرض إبعاد المالكي، وتهميش نتائج الانتخابات، عبر تكتل شيعي شمل أعضاءً في كتلة المالكي، انقلبوا على رغبته في التمسك بالسلطة، فكان اختيار حيدر العبادي، ورضوخ المالكي للتوافقات الإقليمية والدولية.

النموذج العراقي الذي يبقى فيه تطبيق إرادة الناخبين مرهوناً بالتوافقات الإقليمية والدولية، يؤكد أهمية السيادة الوطنية لأي عملية ديمقراطية، فلا قيمة لأصوات الناخبين وعملية تمثيلهم في مؤسسات الدولة، طالما أن الدولة والنخب السياسية خاضعتان لهيمنة قوى أجنبية. إذا كانت سيادة الشعب مفهوماً أساسياً، في تشكيل الديمقراطية الحديثة، فإن ترجمة هذا الأمر تعني استقلالية القرار عن التبعية للخارج، وعدم وجود إرادة فوق إرادة الناخبين، فلا أثر لصندوق الاقتراع، ما دام القرار النهائي في تحديد مصير البلاد يخضع للقوى الأجنبية. لذلك، تبدو الانتخابات في بلدٍ كالعراق كرنفالاً خالياً من المضمون.

هذا النموذج العراقي مهم لإسقاط أوهام من ركبوا موجة استدعاء التدخلات الخارجية لتحقيق الديمقراطية بعد الربيع العربي، وهللوا للتدخل الخارجي في ليبيا، وطالبوا به في سورية، ونحن نشهد ما فعلته التدخلات الخارجية الجزئية في سورية من تدمير للثورة والمجتمع والدولة، وما جلبه التدخل الخارجي في ليبيا من خراب، وسطوة لميليشاتٍ تستقوي بالدعم الخارجي، وهذا الواقع لا تنفع صناديق الاقتراع في تجميله. ما لم تظهر نخب عراقية وطنية تنهي الهيمنة الإيرانية على قرارها، وترفض الوصاية الأميركية، وتؤكد على السيادة واستقلال القرار، فلن تستقيم عمليةٌ "ديمقراطية"، ولن تظهر نتيجةٌ للصناديق.

9BB38423-91E7-4D4C-B7CA-3FB5C668E3C7
بدر الإبراهيم

كاتب سعودي. صدر له كتاب "حديث الممانعة والحرية"، و"الحراك الشيعي في السعودية .. تسييس المذهب ومذهبة السياسة".