عن لعبة الإعلام العربي

08 ديسمبر 2014

غالباً تغيب المهنية والموضوعية في تغطية الخبر عربياً (Getty)

+ الخط -

لم يعد الحديث عن الإعلام الرسمي العربي يدل فقط على وسائل الإعلام الحكومية، الناطقة رسمياً باسم الدول العربية، والتي تمثل وجهة النظر الرسمية، بشكل جلي وصريح، بل يمكن القول إن هذه التسمية أصبحت تشمل وسائل إعلام من نوع مختلف، تُقدَّم بوصفها وسائل إعلام خاصة، تملكها جهات متنفذة، أو رجال أعمال مقربون من الحكومات العربية، تعكس وجهة النظر الرسمية، بطريقة أكثر ذكاءً، وأقل فجاجة، وتُعبِّر بأسلوب مرن عن أجندة سياسية، تُمثل التطلعات الرسمية. حاولت وسائل إعلام عربية أن تصنع صورة مستقلة عن نفسها، لكنها، في أوقات الأزمات الكبرى، كشفت، بصراحة، عن الأجندة السياسية التي تقودها، وأكدت ألا وجود لوسائل إعلام عربية مؤثرة، خارج إطار حسابات الفاعلين السياسيين في الوطن العربي ومصالحهم.

فحْصُ سلوك الإعلام العربي الرسمي، في أوقات الأزمات، يؤكد استمرار دوران وسائل الإعلام هذه في فلك المصالح السياسية للجهات التي تحتضنها، أو تدعمها، فإذا أخذنا طريقة مقاربة هذا الإعلام الثورات العربية التي انطلقت عام 2011، نجد أن معظم وسائل الإعلام، من صحف وفضائيات، تحولت، بشكل لم يسبق له مثيل، إلى أدوات للتعبئة والتحشيد، لصالح خيارات سياسية محددة، وتعاملت مع الثورات المتنقلة في أكثر من بلد عربي، بانتقائيةٍ تعبر عن رغبات مموليها وخياراتهم، فهي ترى ثورةً في بلد ما، وعدم وجود ثورة في بلد آخر، أو هي تشجع حراكاً شعبياً ما حين يقوده أو يشارك فيه فريقٌ تؤيده، وتقف ضد حراكٍ شعبي آخر ضد هذا الفريق. وفي كل الأحوال، تغيب المهنية والموضوعية في تغطية الخبر، وتقديم التحليلات، ليحل محلها الإغراق في التعبئة السياسية.

أكثر من ذلك، تنشر أكثر وسائل الإعلام تلك أخباراً كاذبة، تناسب توجهها السياسي، وتمررها عبر ما يُسمَّى "شهود عيان"، يقولون ما تريده القناة أو الصحيفة، وتروجها على أساس أن هذه الأخبار من قلب الحدث، أو تفبرك فيديوهات معينة، وتبثها لتعزيز صدقية خبرها. وتنشأ، إثر ذلك، حرب إعلامية شرسة، عبر التسابق في فضح فبركة الفيديوهات، فيتضح أن وسائل الإعلام المتصارعة، والتي تعبر عن صراعات أنظمة وجهات سياسية، كلها تستخدم سلاح الكذب في المعركة، ولا تلقي بالاً للمصداقية، في سبيل تعزيز روايتها عن الصراع في المنطقة.

من المهم ملاحظة طريقة ترويج الأخبار الكاذبة التي لا تقف عند الضخ المتكرر للخبر من وسيلة إعلامية بعينها، وإنما تتعداها إلى تكوين شبكة من وسائل إعلام متعددة ومتنوعة، فيها صحف وقنوات تلفزيونية ومواقع على الإنترنت، تعود ملكيتها كلها إلى جهة واحدة، وتبث الخبر نفسه، فيظن المتلقي أن الخبر جاء من مصادر متعددة، فيما هو يخرج من مصدر واحد، ليبث عبر قنوات متعددة تنسق مع بعضها، لتقدم تجسيداً أكثر عصرية لمقولة وزير الدعاية النازي، جوزيف غوبلز الشهيرة: "اكذب ثم اكذب، فلا بد أن يصدق الناس في النهاية"، فهذا الضخ للأكاذيب يجمع بين التكرار وتعدد وسائل الإعلام المروجة، ويضمن تصديقاً أوسع لتلك الأكاذيب.

الحروب على قطاع غزة في السنوات الأخيرة، شهدت نموذجاً آخر لتماهي وسائل الإعلام العربية مع السياسات الرسمية، وعدم استقلالها عنها، فوسائل الإعلام العربية تعاملت مع الحرب على غزة، وفق الرؤية السياسية لمموليها، وعكست وسائل إعلام عربية كثيرة وجهة نظر النظام العربي الرسمي، في قضية فلسطين، فهي تعاملت مع قضية خاصة بالفلسطينيين، تستحق التعاطف، في أحسن الأحوال، أو اللامبالاة وربما الشماتة، كما حصل في وسائل إعلام مصرية، خلال حرب غزة الأخيرة، وهي بذلك تعبر عن رأي النظام الرسمي العربي، الذي لم يعد يرى القضية الفلسطينية قضيةً عربية، يتحمل مسؤولياته تجاهها، وبات يروج اعتبارها قضية خاصة "بالأشقاء الفلسطينيين". كذلك، يمكن ملاحظة تحميل المقاومة، في وسائل الإعلام هذه، مسؤولية الدمار والمآسي التي حلت بسكان القطاع، تماشياً مع الخيار العربي الرسمي برفض المقاومة، والتمسك بخيار التسوية، وتوصيفه بالخيار الاستراتيجي والوحيد، وتوجيه شتى الاتهامات لحركات وفصائل المقاومة.

تثبت هذه النماذج، وغيرها، ارتباط وسائل الإعلام العربية المؤثرة بزواج السلطة والمال في العالم العربي، واستخدام وسائل الإعلام أسلحةً في الصراع السياسي، ما يزيد العبء على المتلقي العربي الذي يبحث عن المصداقية في الخبر، فلا يجدها في حالة استقطاب حادة، كالتي نعيشها، ولا يمكنه الاعتماد على وسائل إعلام مستقلة عن أطراف الصراع، تستطيع تقديم الصورة، بشكل متجرد إلى حدٍ كبير، عن الحسابات السياسية للجهات المتصارعة.

لم يعد المتلقي العربي يشكو من شح المعلومات، بل من تدفقها الكثيف والمتواصل، والذي يصعب فيه التفريق بين الصحيح والكاذب، حيث يحتاج المتلقي لبذل جهدٍ كبير في تدقيق الروايات والأخبار المتضاربة، مشككاً باستمرار في صحة المعلومات التي يتلقاها، وطارحاً الأسئلة على الروايات الإعلامية المختلفة.

لقد زاد التطور التكنولوجي من إمكانية التضليل، ولم يقلصها كما تصور بعضهم، ما يجعل مهمة الباحث عن الحقيقة صعبة، في ظل التنافس بين وسائل الإعلام، على التضليل، وغياب الإعلام المؤثر والمستقل حقيقةً عن الجهات السياسية الفاعلة.

دلالات
9BB38423-91E7-4D4C-B7CA-3FB5C668E3C7
بدر الإبراهيم

كاتب سعودي. صدر له كتاب "حديث الممانعة والحرية"، و"الحراك الشيعي في السعودية .. تسييس المذهب ومذهبة السياسة".