يوم في البحر الميت

يوم في البحر الميت

14 نوفمبر 2022

كرسي عند الغروب في مياه البحر الميت (12/11/2022/Getty)

+ الخط -

لم أعد أتذكّر من قال العبارة الفذّة "من العار أن نمنح مثل هذا اليوم لرب العمل". المؤكّد أنه كاتب روسي، لعله مكسيم غوركي. ليس هذا مهماً، المهم أن هذا اليوم لا يقلّ إشراقاً عن يوم ذلك الكاتب الذي قال ذلك وهو في طريقه إلى العمل، غير أنه تأمل الفضاء حوله، ووجد كل شيءٍ باعثاً على البهجة، فعاد أدراجه مستغنياً عن يوم عمل. خطر لي أن في وسعي حذو حذوه، إذا ما تهرّبت من مهامي اليومية، وأتحتُ لنفسي حيّزاً للتأمل في جمال زخّات المطر التي داهمت مدينتي بعد طول انتظار. قطرات كبيرة ملحّة تضرب ماسحات سيارتي، وأنا في طريقي إلى البحر الميت، البقعة الأقرب إلى قلبي، حيث يحلو لي الهرب أحياناً... سماء فسيحة تكاد تلمسها بيدك لفرط دنوّها، جبالٌ بتشكيلاتٍ غامضة تستدعي ماضياً سحيقاً حافلاً بالحكايات والأساطير. صوت نور الهدى، من الراديو، وهي تغنّي "يا جارة الوادي". أي جمال، أي تجلّ. 
أغلقت هاتفي الجوال كي "تتعطّل لغة الكلام" فعلياً "وتخاطب عيناي في لغة الهوى" ذلك الجمال الفطري الممتد، من دون تدخّل كبير، باستثناء بعض المنشآت السياحية التي نهضت في المنطقة في السنوات الأخيرة، ونجحت في استقطاب سيّاحٍ يعشقون الشمس في عزّ فجورها، يستلقون على شواطئ فنادقهم الفاخرة، يسعون إلى سُمرة تصبغ جلودَهم دليلاً دامغاً على زيارتهم أخفض بقعة على الأرض. يلطّخون أجسادهم بالطين، يسبحون في الماء شديد الملوحة، قبل أن يهرولوا إلى دشّات الماء الحلو المنصوبة على الشاطئ.
أتابع اللافتة التي تشير إلى المغطس، حيث تقول الحكاية إن يوحنا المعمدان عمّد المسيح في نهر الأردن. لا أعرف لماذا قرّرت زيارته هذه المرّة. يبدو الموقع الديني السياحي أقرب إلى ثكنة عسكرية مكتظّة بالجنود بعتادهم الكامل. يتطلّب الدخول إليه إجراءات كثيرة وتدقيقاً أمنياً مشدداً، فهي الأقرب إلى الضفة الأخرى التي لا تبعد أكثر من أمتار.. فلسطين الجريحة الذبيحة. يصدمك علم دولة الاحتلال مرفرفاً بوقاحة واستفزاز، مستدعياً تاريخاً من القهر والظلم واغتصاب الإرادة. يفاجئك أن النهر ليس نهراً تماماً، مجرّد سيلٍ ضئيلٍ بمياه ضحلة يغطس المسيحيون المتدينون أجسادهم في الماء بكل خشوع، فيما يتلو القساوسة تراتيلهم التي لم أفهم منها شيئاً. 
أحاول استحضار مشاعر التهيّب والخشوع، لكني أخفق في ذلك تماماً. توشك عجوزٌ ترتدي صليباً ذهبياً على الانزلاق فأمسك بيدها. تتفوّه بعبارات شكر بإنكليزية مكسّرة. أبتسم لها وأقرّر المغادرة، وقد استولت عليّ مشاعر الغضب جرّاء مشاهدة جنود الاحتلال على هذه المسافة القريبة. اعتدت مشاهدتهم على محطات التلفزة، وهم ينكلّون بشباب فلسطين المقاومين بأجسادهم العارية وإرادتهم الصلبة. أتذكّر الفتى الفلسطيني عدي ورفاقه من الشهداء الذين ضحّوا بأعمارهم الفتية فداء لأرض منذورة للعذاب. يغيظني أن الحياة تستمر رغم كل تلك الأهوال. ألوم نفسي بسبب إحساسي بعبثية الأشياء. القوة تفرض منطقها والضحايا يتساقطون بواقع يومي، فيما بعض العرب يتمادون في غيّهم التطبيعي مع القتلة بلا خجل.
أغادر الموقع وأقود سيارتي بعيداً. أبحث عن تمثال سيدة الملح. هكذا يحلو لي أن أسمّيها. تشكيل صخري ملحي ضخم على قمّة جبل يواجه بحراً يتوهمونه ميتاً. يعتقد بعضهم أنه لزوجة لوط التي تجرّأت على النظر إلى الخلف فتجمّدت الدماء في عروقها، وتحولت إلى تمثال من الملح، عبرة للناظرين من العصاة المتمرّدين. أقف قبالتها تماماً، أشخص بنظري نحوها، أحاول إعادة تشكيل المشهد، كما ورد في الكتب المقدّسة. يخذلني الخيال، حين يعلو الضجيج، فوج من السياح يمتطون جمالاً مزركشة، يقودها شبّان من أهل المنطقة، كانوا خائفين، لكنهم مبتهجون بتجربة ركوب الجمل مقابل بضعة دنانير هي قوت سكان المنطقة مدقعة الفقر. التقط السياح الصور التذكارية، وعادوا إلى الفندق لتناول وجبة الغداء. آنذاك، خيل إليّ أن سيدة الملح تذرف من عليائها دمعة عملاقة ساخنة بالغة الملوحة تنذر بطوفان الحزن من جديد.

AD06A645-8A0A-4B42-9292-5FC44B5D51C6
بسمة النسور

كاتبة أردنية، تحمل الليسانس في الحقوق، صدر لها ست مجموعات قصصية، وكتبت نصين مسرحيين. تكتب في الصحافة العربية منذ 1990، وتشغل موقع رئيسة تحرير مجلة "تايكي" المتخصصة بالإبداع النسوي.