وصفة النجاح في استمرار الفشل في مصر

وصفة النجاح في استمرار الفشل في مصر

27 مارس 2024
+ الخط -

تثبت التطوّرات أخيرا صحّة المقولة التي تتردّد في الإعلام الدولي في السنوات القليلة الماضية إن مصر أكبر من أن يُسمح لها بالسقوط. يأتي الخارج في الأوقات الحاسمة بالحلول ودفعات الأوكسجين الطارئة لتسكين الأزمات، واحتواء بعضٍ من آثارها. وعلى عكس بعض التوقعات التي كانت سائدة خلال النصف الثاني من العام السابق، أن نظام الحكم قد يشهد تحوّلات نوعية، فإن المؤشّرات الحالية تسير في اتجاه أن النظام الحكم الحالي ما زال قادراً على الاستمرار والتجدّد بملامحه نفسها، وسوء إدارته السياسة والاقتصاد، ليس بفضل مهارات القائمين عليه أو إنجازاتهم، ولكن لضعف تنظيم المحيطين به داخلياً وقدراتهم، والاستثمار الناجح للحكومة في تعظيم استغلال الفرص الإقليمية والدولية لتوفير مسكّنات طارئة لأزمات هيكلية عميقة. قدّمت كلٌّ من الإمارات والاتحاد الأوروبي وصندوق النقد الدولي والبنك الدولي حزماً جديدة من الاستثمارات والمساعدات والقروض الجديدة خلال شهر مارس/ آذار الحالي تجاوزت الـ50 مليار دولار. تساعد الصفقة الاستثمارية العقارية الضخمة للإمارات، الحليف الاقتصادي الأهم حاليا لمصر عربياً، في ضخّ سيولة نقدية أجنبية في وقت بالغ الدقّة، بحيث تستطيع الحكومة تسهيل الحصول على باقي حزم المساعدات، وإنهاء الاتفاق الجديد مع صندوق النقد الدولي، والوفاء ببعض الإصلاحات المالية المطلوبة من الصندوق، ورفع تصنيفها الائتماني. قد تؤدّي هذه الحزمة المالية الجديدة إلى استقرار المؤشّرات العامة للاقتصاد المصري على المدى القصير، لكنها لن تحلّ أزمة الديون المتراكمة، أو تؤدّي إلى تحسين الأوضاع المعيشية الصعبة اليومية للسواد الأعظم من المصريين، في ظل استمرار نمط السياسات الاقتصادية نفسه، وهو ما أكّده تحليل اقتصادي شامل نشره موقع بلومبيرغ الإخباري قبل أيام عن النتائج المتوقّعة لهذا الدعم المالي الطارئ.

لا تخلو هذه المساندة الخارجية من دوافع سياسية واستراتيجية. المطلوب بالنسبة للجانب المصري تسكين الأزمة وتأجيل أمد انفجار تبعاتها الاجتماعية داخلياً. بالنسبة للإمارات، تزيد الصفقة الضخمة الجديدة من نفوذها الاقتصادي والسياسي الداخلي في مصر، والتأثير في سياساتها الخارجية. وبالنسبة للاتحاد الأوروبي، المساعدات الجديدة، والتي تأتي في إطار ما يعرف بالشراكة الاستراتيجية الشاملة، تعكس رغبة أوروبية في تأكيد الشراكة مع الحكومة المصرية في ملفّات مكافحة الهجرة غير النظامية، وتسهيل تصدير الطاقة إلى أوروبا، وضمان تناغم الموقف الخارجي المصري تجاه إسرائيل مع المواقف الأوروبية. بدأ الاتحاد الأوروبي هذا المسار مع مصر منذ عام 2017، عبر استئناف اجتماعات مجلس الشراكة المصرية الأوروبية، وصولاً إلى الإعلان عن هذه الشراكة الاستراتيجية الشاملة في اجتماع مجلس الشراكة العاشر في يناير/ كانون الثاني الماضي، والذي كشفت وثائقه عن الاتفاق الذي يسعى الاتحاد الأوروبي إلى التوصل إليه مع مصر بشأن السيطرة على تدفّق المهاجرين إلى أوروبا عبر المتوسّط، والمشابهة للاتفاق الأوروبي التونسي المثير للجدل.

من الخطأ الرهان على أن الأزمات الاقتصادية والاجتماعية وحدها قد تغيّر الملامح الاستبدادية لنظام الحكم المصري في ظلّ السياق الدولي والإقليمي الراهن

وسط هذه التطورات المبهجة للحكومة المصرية، والتي انعكست إيجابياً، وبشكل ملحوظ، على الحالة المعنوية للرئيس المصري عبد الفتاح السيسي، في أحاديثه وخطبة خلال الأسبوعين الأخيرين، قرّرت السلطة إغلاق ملف القضية 173، والتي تعد القضية الجنائية الأشهر دولياً، والتي استهدفت الحركة الحقوقية المصرية. بدأت صياغة هذه القضية ضد منظمّات حقوق الإنسان المصرية والدولية العاملة في مصر منذ عام 2011، وتصاعدت إجراءاتها منذ عام 2014. ... بالتأكيد، إغلاق هذه القضية خطوة جيدة، لكن من المهم الانتباه إلى أن الغرض السياسي والأمني لهذه القضية قد استنفد بالفعل. فقد تعرّضت قيادات وأعضاء أهم منظمات حقوقية مصرية لإجراءات تعسفية متواصلة لأكثر من ثماني سنوات، شملت المنع من السفر، والتحفّظ على أموالهم وممتلكاتهم. وأدّت القضية أيضاً إلى خروج حقوقيين مصريين عديدين ومنظماتهم للعمل في المنفى. ورغم أن هذه القضية كانت مؤلمة للحركة الحقوقية المصرية، إلا أنها لم تنه عملها، بل على العكس، فقد أدّت إلى تكثيف التضامن والتعاون العابر للحدود الرسمي وغير الرسمي، والذي لاحق الحكومة المصرية في كل المنابر الدبلوماسية الدولية. لم تنجح السلطات المصرية، رغم جدّية تهديداتها عام 2014، في إحالة القضية إلى المحاكمة الجنائية أو اعتقال القائمين على هذه المنظمّات المصرية، أو محاكمتهم، بسبب الكلفة السياسية العالية لمثل هذا الإجراء. وقد اضطرّت تحت ضغط مباشر من الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب من إنهاء الشق الدولي للقضية، والذي ضم ممثلين عن منظمات حقوقية أميركية. لا يعدو الإعلان عن إغلاق هذه القضية سوى مراوغة تكتيكية لتمرير الصفقات المبرمة أخيراً مع الهيئات الدولية، وخصوصاً الاتحاد الأوروبي، الذي يبحث هو الآخر عن مشروعية أخلاقية ورمزية للتخفيف من تبعات اتفاقه بشأن السيطرة على المهاجرين غير النـظاميين مع دولةٍ لا تعد آمنة بالمرّة لاستضافة أو إعادة توطين مهاجرين أو طالبي لجوءٍ لا تريد أوروبا استقبالهم.

الخطوات الإصلاحية المحدودة والعشوائية التي تتّخذها الحكومة المصرية من حين إلى آخر منذ عام 2021، والتي تأتي في معظمها استجابة لمتغيّرات عرضية خارجية أو داخلية لم تغيّر المشهد السياسي المغلق، رغم وجود فرصٍ عديدة كان من الممكن استثمارها بشكلٍ مختلف إذا كانت هناك جاهزية ورؤية للنخب السياسية داخل البلاد. اعتمدت السلطة داخلياً في العامين الأخيرين على مزيدٍ من الاحتواء والتدجين للسياسيين وبعضٍ ممن خرجوا من السجون أخيراً، واعتمدت، في الوقت نفسه، على ما يمكن تسميته الترهيب والابتزاز الصامت لمن يرفض الانصياع للسلطة. لم تشهد الساحة الداخلية في مصر في ظل هذا المناخ المقيّد سوى تفاعل ضعيف غير منظّم مع مبادرات النظام كردّ فعلٍ للحصول على مكتسبات قصيرة المدى، وفئوية تخصّ أصحابها وجماعاتهم. وقد مرّت الانتخابات الرئاسية المصرية في ديسمبر/ كانون الأول الماضي حدثاً عرضياً لم يشعر به أحد، ليس فقط بسبب الاهتمام الإعلامي والشعبي بتداعيات العدوان الإسرائيلي على غزّة، ولكن أيضاً لأن هذه الانتخابات والمنافسين فيها لم يتمكّنوا من أن يكونوا ملهمين بأي شكل للمصريين في الداخل أو الخارج. وقد تعاملت السلطة بقسوةٍ مع أي مرشّح محتمل يمكن أن يلتفّ حوله المصريون. في الوقت ذاته، مثلت حرب غزّة فرصة ثمينة لتعميق التقارب المصري مع أوروبا والولايات المتحدة، والشركاء الإقليميين.

 لم تعرف مصر وضعاً اقتصادياً واجتماعياً كارثياً مشابهاً للوضع الحالي

نتذكّر أن العلاقات المصرية الأميركية شهدت، قبل حرب غزّة بأسابيع قليلة، توتّراً بعد الكشف عن تورّط مسؤولين مصريين في تقديم رشاوى لرئيس لجنة العلاقات الخارجية السابق في مجلس الشيوخ الأميركي، السيناتور روبرت مينينديز، لتسهيل تلقّي مصر المعونة العسكرية الأميركية من دون شروط، وتحسين صورة الإدارة المصرية في واشنطن. لكن سرعان ما طوت الإدارة الأميركية هذه الصفحة بعد حرب غزّة مع احتياجها المتزايد للدور المصري. وقد ساعد في ذلك الحرص الشديد على الجانب المصري، في عدم الخروج عن الإطار العام المتناغم مع المواقف الغربية تجاه الاحتلال الإسرائيلي. ويعدّ تسارع موجات الدعم الإقليمي والدولي للحكومة المصرية في الفترة الأخيرة تأكيداً لحالة الرضا الدولية والإقليمية عن الدور المصري، واستعداده لمدّ يدّ العون لإنقاذ الحكومة بمسكّنات عاجلة.

يقول الباحث الاقتصادي ماجد مندور، في تقرير صادر حديثاً عن المنبر المصري لحقوق الإنسان، إن الأزمة الاقتصادية الراهنة "لم تحدُث كنتيجة ثانوية لسياسة اقتصادية خاطئة، أو فشل عرضي لسياسة عامّة منفذة من موظفين تكنوقراط، بل هذه الأزمة هي نتيجة مباشرة لمشروع النظام السياسي الحالي، والذي قام بالتركيز المفرط للسلطة في أيدي المؤسّسة العسكرية على حساب القوى والتيارات الاجتماعية الأخرى، وذلك بدعم شعبي واسع النطاق". لم تعرف مصر وضعاً اقتصادياً واجتماعياً كارثياً مشابهاً للوضع الحالي، لكن من الخطأ الرهان على أن الأزمات الاقتصادية والاجتماعية وحدها قد تغيّر الملامح الاستبدادية لنظام الحكم في ظلّ السياق الدولي والإقليمي الرهن، والممانع لمثل هذه التحوّلات، وفي ظل التصحّر السياسي المستمرّ في البلاد داخلياً.

معتز الفجيري
معتز الفجيري
معتز الفجيري
أكاديمي وحقوقي مصري. أستاذ مساعد ورئيس برنامج حقوق الإنسان في معهد الدوحة للدراسات العليا. عمل سابقاً في العديد من المنظمات غير الحكومية العربية والدولية المعنية بحقوق الإنسان.
معتز الفجيري