هل يدخل العالم مرحلة العطالة؟

هل يدخل العالم مرحلة العطالة؟

08 أكتوبر 2022
+ الخط -

يبدو ما يجري من أحداث في العالم مجرّد هامش للحرب الأوكرانية التي تزداد تعقيدا بفعل غياب أي أفق للتسوية بين أطرافها، مع تصاعد وتيرة المخاطر التي أصبحت لها دينامياتها، والتي تمتلك آليات تشغيلها بشكل مستقل، من دون القدرة على التحكّم بمخرجاتها.

ثمة توقعات أن الحرب قد تستمرّ حتى 2024، موعد الانتخابات الرئاسية في كل من الولايات المتحدة وروسيا، عندما يمكن وصول قيادات جديدة لها مقاربات أخرى للتعاطي مع هذه الأزمة الدولية، ما يعني استحالة حصول تغيير حتى ذلك الوقت. ويعني هذا التقدير أن سنة 2023 ستشهد ذروة هذه الحرب التي ستنتقل من الحرب بالوكالة، إلى حد ما، إلى حرب مباشرة بين الفاعلين الأساسيين، روسيا والغرب، وما يعنيه ذلك من احتمالات اللجوء إلى أسلحة الدمار الشامل. واللافت هنا أن مسؤولي الاستخبارات الأميركية، وليام بيرنز الحالي، وديفيد بتريوس السابق، قد أكّدا بشكل صريح أن الرئيس الروسي بوتين، وفي حال استمرّت متوالية خساراته، سيلجأ إلى استخدام الأسلحة النووية.

كيف سيكون العالم في المرحلة المقبلة؟ وبصيغة أدقّ، كيف ستكون فعاليته وشكل ممارسته الحياة وطبيعة انشغالاته وحركية آلياته التشغيلية؟ تتسارع وتيرة الأحداث بشكل مذهل، ما كان يحصل على مدار أعوام يحصل اليوم في أيام قليلة، انهيار العملات، ارتفاع أسعار الطاقة، وصول أسعار السلع الغذائية والاستهلاكية إلى حدودٍ تتجاوز المحتمل، وندرتها في أحيان كثيرة، ارتفاع معدّلات الجرائم وبأنماط وأشكال جديدة، حركة هجرة عالمية واسعة، وقوع بلدان عديدة في مستنقع الإفلاس، رغم عدم الإعلان عن ذلك، والتحايل على الأمر عبر ضخ مزيد من البروباغندا المنتهية صلاحيتها.

ستشهد مناطق التوتر والصراعات شراسة استثنائية، سواء بسبب تغيّر الأولويات، أو الصراع على الموارد المحدودة وانقطاع الدعم الخارجي عن أطرافها

هذه عناوين عريضة، تخفي تحتها تفاصيل مرعبة، أهمها توقف النمو الاقتصادي، أو تراجعه وانهياره في حالات كثيرة، وهي القاطرة التي ستجرّ الحياة البشرية إلى واقع كابوسي، بحيث تذهب الكيانات: دولاً ومؤسسات وشركات ومنظمات، إلى تخفيض فعالياتها إلى أبعد الحدود وتوقيف كل البرامج والأنشطة غير الضرورية، والبحث عن خطط جديدة لترشيد الموارد والنفقات ضمن أضيق الحدود. ويعني هذا أننا قد نشهد إعادة توجيه حادّة للموارد، تستثني الأنشطة التي ليس لها مردود مادي فعلي ومباشر، الأمر الذي سيطاول، بدرجة كبيرة، الفعاليات والأنشطة الثقافية، ومجالات المساعدة والدعم الأممية للمجتمعات الضعيفة، وكل الأنشطة خارج الحدود ذات الطابع الإنساني، هذه المجالات والقطاعات ستكون الضحية الأولى لعالم توقف نموه الاقتصادي، في وقتٍ سيشهد هبوط فئات وشرائح واسعة على المستوى العالمي إلى مستنقعات الفقر والعوز.

وبالتبعية، سيشهد العالم إعادة توجيه للسياسات الدولية، حيث ستشهد مناطق التوتر والصراعات شراسة استثنائية، سواء بسبب تغيّر الأولويات، أو الصراع على الموارد المحدودة وانقطاع الدعم الخارجي عن أطرافها، أو بسبب اعتبار هذه الظروف بمثابة فرصة يستوجب استثمارها قبل أن يعود العالم إلى وتيرته السابقة. وستشكل هذه الظروف قوة تحويلية لعوالم باردة، ليس بسبب انقطاع شحنات الغاز عن بعض مناطق العالم، بل بسبب تراجع حرارة علاقات البشرية بالقضايا الحيوية، والتي تتشكًل على أسها مستقبلات البشرية، مثل قضايا البيئة والتنوع البيئي وعوالم الثقافة والفكر والفن، إذ ستدخل في ظل هذه التحولات جميع هذه القيم في خانة التسليع، وحسابات التكاليف والجدوى والمردودية.

وفي خلاصة هذه التطورات، أو نتيجة لها، ستعمّ العطالة، على جميع المستويات، بدءا من السياسة، في شقّيها الداخلي والدولي، حينما تتحوّل جميع الطاقات والفعاليات إلى وضع تقديرات للمراحل المتسارعة للتطورات الميدانية في أوروبا، وتحديد طبيعة الاستجابات المناسبة لهذه التطورات، وتبيان أحجام تكاليفها وماهية المخاطر المترتّبة عليها.

ما كان يحصل على مدار أعوام يحصل اليوم في أيام قليلة

ولكن اللافت أن استراتيجيي العالم، والمؤثرين في صناعة القرار وتوجيه السياسات، ما زالوا عند مرحلة استكشاف موازين القوى للفاعلين وحساب عدد القنابل التكتيكية والاستراتيجية التي يملكها كل طرف، وتحليل مزايا الأطراف في ساحة المعارك، وليس سرّاً أن من يتابع التفصيلات اليومية لأخبار الحرب واستعدادات اللاعبين واستجاباتهم للتطورات والمخاطر التي تنطوي عليها، سيلحظ حجم الانشغال بحدود الرد الغربي على ضربة بوتين النووية الأولى لأوكرانيا، هل ستكون على شكل تدمير القوات التقليدية الروسية ضمن مناطق محدودة، أم الإجهاز على قطاعاتها وصنوف أسلحتها بشكل كامل؟ لكن، ماذا لو بدأت الحرب على الساخن فوراً، أي أنها لم تمر عبر المراحل التي يتصوّرها هؤلاء الاستراتيجيون، هل سيجري حينها استدراك هذا الخطأ التقديري، وإعادة بناء خطط مرحلية جديدة؟

على عكس ما يُشاع، تنطوي هذه المرحلة على فرصة، أو خطر، نشوء نظام دولي جديد، إذ ليس ثمًة مؤشّرات إلى حصول مثل هذا الأمر، إما بسبب ضعف روافع النظام الجديد، أو عدم رغبة فاعلين دوليين كثيرين تحمّل تكاليف تغيير المعادلات القائمة، والضوابط التي تُسيّر هذا العالم، فإن الأرجح أن العالم سائر إلى مرحلة عطالة وانعدام، قد تستنفد جزءاً كبيراً من موارده وطاقاته للخروج منها وإعادة تصحيح الأوضاع إلى مرحلة ما قبل الانهيار الذي بات يطرق الأبواب. ومن يدري، قد تتحوّل العطالة، بكل سلبياتها، إلى أفضل الخيارات المتاحة؟

5E9985E5-435D-4BA4-BDDE-77DB47580149
غازي دحمان

مواليد 1965 درعا. كتب في عدة صحف عربية. نشر دراسات في مجلة شؤون عربية، وله كتابان: القدس في القرارات الدولية، و"العلاقات العربية – الإفريقية".