مصر والدجاج البرازيلي وخدعة الفرارجي

12 مارس 2023

ديك للبيع في محل في القاهرة (17/3/2022/فرانس برس)

+ الخط -

تواجه مصر، منذ أشهر، أزمة كبيرة في قطاع الدواجن، مردّها الأساسي أزمة العملة والسياسات الكلية المتّبعة بسبب برنامج الإصلاح الاقتصادي، والتي قادت إلى تعويم جديد للجنيه، ارتباطاً بمشروطيات صندوق النقد الدولي وقرضه أخيرا، الذي لا يسمن ولا يغني من جوع في مواجهة الفجوة التمويلية المصرية المزمنة. بسبب هذا التعويم، تضاعفت أسعار الأعلاف خلال العام الماضي، ما قاد إلى مشهد إعدام الدجاج الذي شوهد على شاشات القنوات الدولية، بسبب عدم القدرة على توفير الأعلاف، فيما صوّرته الحكومة مؤامرة إخوانية على مصر، لننزلق إلى حدّ مخاطبة المصريين عن فوائد أكل أرجل الدجاج، باعتبارها ثقافة سائدة لدى شعوب أخرى، ثم لنصل إلى محطّة الارتفاع الكبير جدا في أسعار اللحوم والدواجن، الأمر الذي جعلها تخرُج عن متناول الأيدي والرواتب الهزيلة لغالبية المصريين، وتصبح محطّ سخط كبير أو سخرية على مواقع التواصل الاجتماعي، لتتدخّل الحكومة المصرية بمهدّئات إعلامية ووعود كلامية، من قبيل أنّ الأسعار سوف تنخفض قريبا، تارّة بسبب استيراد المؤسسات السيادية والشركات التابعة لها كميات كبيرة من الدجاج البرازيلي، وتارات أخرى لأنّ المواطنين المسيحيين سيدخلون في صومٍ عن اللحوم والدواجن.

هناك خدعة مشهورة لدى السيدات في الأرياف يستعملها معهن "الفرارجي" الذي يشتري منهن الدجاج الذي يربّينه في البيوت، مفادها أنّ الأسعار رخيصة والسوق نائم هذه الأيام بسبب صوم الإخوة المسيحيين، حيث لا يأكلون اللحوم والدواجن في أيام الصوم، يظلّ الرجل يستغل هذه الخدعة أطول فترة ممكنة حتى خارج أيام الصوم، مستغلاً جهل كثيرين بأيام الصيام في المسيحية، ليحقّق ثروة كبيرة جرّاء هذا التطفيف.

يبدو أنّ الحكومة مع أزمة اللحوم والدواجن أخيرا قد فطنت إلى هذه الحيلة، وبدأت في استخدامها لتبشير الناس بأنّ الأسعار قد تنخفض نتيجة صوم الإخوة المسيحيين. والحقيقة أنّ هذه حيلة فاشلة، فمسيحيون كثيرون لا يصومون أصلا، وكثيرون منهم فقراء أيضا، وغير قادرين على استهلاك اللحوم بأسعارها الجنونية الحالية، فهم يتركّزون في ريف الوجه القبلي الأكثر فقرا، وحتى لو صام المسيحيون كلهم أو قاطعوا اللحوم طوال العام، فهذا لن يحل المشكلة. وإذا افترضنا أننا نعيش حلم التفاعل الحر لقوى السوق ذات التنافسية الكاملة، كما نظّر لها الليبراليون، والتي لم ولن تتحقق، فإن هذا لن يؤدّي إلى أكثر من انخفاض بمعدل 7.5% عن الأسعار الحالية المُبالغ فيها أصلاً.

وصل الأمر في مصر إلى حدّ أن يُحدّث الإعلام والمشايخ المصريون عن فوائد الدجاج المستورد، خوفاً من ركود تجارة المافيات، مع تشويه سمعة المنتج المحلي وصناعة الدواجن

نحن، إذن، إزاء حكومة ومؤسسات سيادية تسيطر على سوق استيراد اللحوم، تحتال على المواطنين، مستخدمة خدعة الفرارجي نفسها، ولكن على نطاق منهجي ضخم، فبينما تحدّث الناس بما يتوفر لديهم من معلومات عن أسعار الدجاج واللحوم في بلدان المنشأ، في البرازيل تحديدا، وكذلك أسعار الشحن المتوّفرة عبر الإنترنت، مكتشفين أنّ من يبيع الدجاج بالأسعار الحالية في مصر إنما يربح على أقل تقدير أكثر من 100%، إذا كان فاشلاً في المساومة وعقد الصفقات، وقد يصل مكسبه إلى أكثر من 300%، وهذا جنون، حتى المنطق النيوليبرالي ذاته لا يقرّه، وليس خوفا على المواطنين بقدر ما هو خوفٌ من انهيار قواعد (ومنطق) السوق نفسه وانهيار السلطة السياسية أو حدوث خللٍ في علاقة الحكومة بالسوق أو بالمجتمع، وحدوث خلل غير متوقع في معادلات ترتيب تلك العلاقة.

وصل الأمر إلى أن يُحدّث الإعلام والمشايخ المصريون عن فوائد الدجاج المستورد، خوفاً من ركود تجارة هذه المافيات، حدّ تشويه سمعة المنتج المحلي وصناعة الدواجن، التي جرى تدميرها خلال أزمة العملة وانهيارها وتدهور قدرة البنوك على توفير الدولار لاستيراد الأعلاف، وهي الصناعة التي كان الإعلام المصري يتفاخر بها منذ سنوات وبأنّ مصر حقّقت الاكتفاء الذاتي من البيض، وأنّ القطاع يوّفر النسبة الكبرى من اللحوم البيضاء للمصريين.

يحدّث النظام والحكومة المصريين، منذ سنوات، عن أفكار خاصة بالقطاع الزراعي، بعضها متعلّق بقطاع الألبان الذي يزعج الحكومة والرئيس نفسه بنمط الإنتاج الذي ينتج فيه المزارعون الصغار في ربوع مصر النسبة الكبرى من الألبان، رغم أنّ هذا نمط إنتاج أفضل بكثير من نمط الإنتاج الذي تتحكم فيه قلّةٌ من الشركات المحلية أو الدولية، وتستطيع تعريض الأمن الغذائي للمصريين للخطر، باتفاقات احتكارية بينها لأي ظرفٍ أو سبب. ثم هي، بكلّ مستوياتها وأذرعها، تحدّث المصريين عن استيراد اللحوم والدواجن وفوائده للاقتصاد الوطني حلّا للأزمات المتعلقة باللحوم، التي تدهور نصيب المصريين منها على مدار السنوات الماضية، وتزايدت معدلات سوء التغذية بسبب الفقر، بينما استيراد الأعلاف، أو حتى وضع خطة لإنتاجها محليا بالإمكانات المتاحة للجهات السيادية نفسها، قادر على أن يحلّ الأزمة من جذورها، وفي أقلّ من عام، بحيث لا تتكرّر.

حتى وقت قريب، كان قطاع صناعة الدواجن شديد النجاح، ويوفر اللحوم البيضاء لغالبية المصريين

مرّة أخرى، تعطي الجهات السيادية الحاكمة درساً بعنوان كيف تفشل وتفلس قطاعاً استراتيجياً ناجحاً في أقلّ وقتٍ ممكن، فحتى وقت قريب، كان قطاع صناعة الدواجن شديد النجاح، ويوفر اللحوم البيضاء لغالبية المصريين، لكن هذا هو المصير المحتوم لسياسةٍ قائمةٍ على أنّ شراء العبد خيرٌ من تربيته، سياسة تتفق مع إدارة "كانتين" الوحدة أو الكتيبة في الجيش، بحيث تشتري السلعة بأرخص سعر، وتستغلّ الظرف الاحتكاري والموقع البعيد عن العمران، وتبيعها بأضعاف سعرها في خارج الوحدة أو المعسكر، ثم تعتبر نفسك ناجحا اقتصاديا.

المتمّنى أن تتوقف الحكومة المصرية عند حدّ استخدام حيلة "الفرارجي" هذه، وتكتفي بشرح فوائد استيراد الدجاج واللحوم، وألا تنحدر بالمصريين أكثر، فتصبح كمن "سكتنا له فدخل بحماره"، ثم تتحدّث، بإعلامها ودور إفتائها وعلماء دينها وأطبائها وخبرائها، عن فوائد أكل لحوم الحمير والكلاب.