مصر تستعيد دورها والبرهان يبحث معها عن حلول

مصر تستعيد دورها والبرهان يبحث معها عن حلول

04 سبتمبر 2023

السيسي يستقبل البرهان في العلمين (29/8/2023/الأناضول)

+ الخط -

خرج رئيس مجلس السيادة السوداني، قائد القوات المسلحة، الفريق أول عبد الفتاح البرهان، في زيارة أولى لمصر، بعد خمسة أشهر من الحرب، يبحث عن حلول. واستقبلته القاهرة ضمن أدوار الوساطة، وهي تعيد تعيين موقعها في الملفّ السوداني، مدفوعة بمشاورات إقليمية ودولية، ومخاوف أساسية من تبعات أمنية واقتصادية، إذا ما اتسع نطاق الحرب، بما ينذر بفوضى واسعة، وفرص لنشاط مجموعات إرهابية، سبق وشهدتها الحدود مع ليبيا. ويقلق القاهرة، أيضا، انتشار تقارير عن مشاركة مليشيات بجانب الجيش في صراعه مع قوات الدعم السريع، هذا إلى جانب ضغوط وتبعات الحرب اقتصادياً، والتي تؤثر أيضاً على دول الجوار.
كانت القاهرة في حاجة إلى الاستماع إلى تطوّرات الأوضاع الميدانية، وكذلك مناقشة سبل الخروج من الأزمة، وما إذا كان الجيش وقيادته مستعدّين لذلك فعلياً ضمن حلّ سياسي. وقد خاطب البرهان، خلال الزيارة، القوى الدولية والإقليمية، بوصفه رجل دولة قادراً على التهدئة وتفكيك الأزمة، من دون وصولها إلى محطّة فوضى شاملة تسببها جرائم مليشيات مسلحة، لا يمكن التعامل والثقة في خطابها. وطالب مصر، مع شكر لشعبها، باستمرار جهود تخفيف حدّة الأزمة، عبر أدوار الوساطة، بما فيها، أولا، تعزيز الاتصال مع قوى وأطراف دولية. ثانياً، مواصلة النقاش مع قوى الداخل السوداني. وثالثاً، طرح ملفّ النازحين، والذين يزداد عددهم بشكل متواتر، وخاطبهم البرهان بوصفهم جزءاً من الشعب الذي تحمّل نتائج "التمرّد"، لكن الدولة في طريقها لمعالجة تبعات الأزمة، وهو ما يتسق مع خطاباته قبيل الزيارة وبعدها بأيام، إذ بدا أنه يتوجّه إلى استعادة دور مؤسّسات الدولة، وقدرتها على الاتصال والتنسيق ببعضها بعضاً، وكذلك اتصال مع المكونات الاجتماعية، وأخيراً اتصال مع الأطراف الدولية والإقليمية، وضمنها زيارات مرتقبة إلى عدة دول عربية أظهرت استعداداً للعب دور في الوساطة.
على مستوى مؤسّسات الدولة، أظهر البرهان توجّها إلى استنهاض القوات النظامية، الجيش والشرطة (زيارة بعض الأفرع العسكرية وقوات الشرطة)، ومحاولات تسيير أعمال الهيئات الحكومية، بجانب استئناف اتصالاته الخارجية. وتأتي هذه التحرّكات المتزامنة على خط واحد، بهدف ترميم النظام الذي تعرّض للتفسّخ، فأضاف إلى هشاشته، بانقسام في القوات النظامية، وخروج جزء منها على الدولة في "تمرّد" يستهدف الاستيلاء على السلطة.

بدا البرهان في القاهرة أنه يستعيد إنتاج خطابات التقارير الأممية عن جرائم حرب مارستها قوات الدعم السريع، مركّزا على دور الشعب السوداني في المواجهة

وبين رسائل البرهان في لقاء القاهرة وما تلاه بأيام، أن يستعيد السودانيون الشعور بالأمن نسبيا، وامتلاك الأمل بأن الجيش قادر على الحسم، وإجراء تسوية تستوعب الأزمة، وهو ما بدا في معاودة طرح مرحلة انتقالية تمهّد لانتقال السلطة، وتتضمّن تشكيل حكومة وعقد انتخابات، مذكّرا بأن "الجيش لا يطمع في السلطة"، وهو ما سبق وقاله بعد انقلاب دبّره بالتعاون مع قائد قوات الدعم السريع، محمد حمدان دقلو (حميدتي) وقوى سياسية على حكومة عبد الله حمدوك (أكتوبر/ تشرين الأول 2021)، وهو الخطأ الأكبر الذي قطع مسار انتقال السلطة، ومهّد للحرب الجارية.
وبدا البرهان في القاهرة أنه يستعيد إنتاج خطابات التقارير الأممية عن جرائم حرب مارستها قوات الدعم السريع، مركّزا على دور الشعب السوداني في المواجهة. وفي رسالة إلى الخارج، نفى أن يكون الصراع الحالي بين إسلاميين كانوا في السلطة والشعب، معتبرا أن مزاعم "المتمرّدين" عن أسباب الصراع مجرد وهم. ركّز على مقولات "الشعب" في خطاب دبلوماسي غير اعتيادي، متأثرا بواقع الأزمة، ومركّزا على معاناة المدنيين من أعمال عنف وجرائم، مؤكّداً تمثيله الشعب والدولة، كما تحدّث عن أوضاع النازحين، حاملا مطالب بتسهيلات في التنقل والعبور، وهو ما جرت الاستجابة إليه سريعا بعودة رحلات الطيران من القاهرة إلى بورتسودان (تتحوّل تدريجياً إلى عاصمة لإدارة البلاد)، وربما في الأيام المقبلة، تعلن تسهيلات بشأن إجراءات السفر ودخول الأفراد، وحركة نقل البضائع. وفي لقائه مع قوات الشرطة، تحدّث البرهان عن إعادة النظر في تكاليف استخراج جوازات السفر وإجراءاته.
وعموماً، جاءت الزيارة ضمن تمهيد الطريق لحلول توقف التصعيد العسكري، وكانت مواقف القاهرة ومشاوراتها مع القوى الإقليمية والأطراف السودانية مهمة في هذا المسار، كما استطاعت فرملة التدخل العسكري، من خلال قمّة دول الجوار، إذ استوعب موقفي كينيا وأثيوبيا، وتميل الأخيرة، وبدعم أطراف إقليمية، إلى قوات الدعم السريع، وتتهم قيادة الجيش رئيس كينيا بالانحياز إلى حميدتي.

تقول مؤشّرات إنّ الأيام المقبلة تحمل سيناريو يتضمّن سعياً أكبر إلى تفكيك الأزمة السودانية، وإن تزامنت عملية التمهيد لها مع استمرار الصراع المسلح 

إجمالاً، تخاطب الزيارة دعماً مصرياً يخفّف من حدّة الأزمة، عبر الوساطة في الصراع، بين مكونات سودانية، وأيضا تسهيل الاتصالات الدولية والإقليمية مع قيادة الجيش، وتفكيك أزمة النازحين وبحث سبل الإغاثة الطارئة بالتعاون مع دول عربية ومنظمات دولية، والأخيرة تحذّر من تبعات الوصول لحرب شاملة، ومنها تصريحات الأمين العام للأمم المتحدة، أنطونيو غوتيريس، الذي دعا إلى إلقاء السلاح، محذراً من مخاطر قد تنال من وحدة السودان، واستقرار المنطقة ككل.
وربما تشكل زيارة البرهان مصر وتوقيتها محطة لتهدئة الصراع بين قوات الجيش والدعم السريع، خصوصا أنها تحمل رسائل، أهمها رغبة في إنهاء الصراع بشكله الحالي، وفتح الباب لتسوية خاصة مع عجز طرفي الصراع عن الحسم ميدانيا، وإدراكهما أنه لا بديل عن حلول سياسية، وتتشارك الموقف نفسه قوى إقليمية ودولية، مع تفاوت انحيازاتها لطرفي الصراع ومسارات الحل.
تقول مؤشّرات عدة إن الأيام المقبلة تحمل سيناريو يتضمّن سعياً أكبر إلى تفكيك الأزمة، حتى إن تزامنت عملية التمهيد لها مع استمرار الصراع المسلح (عاد البرهان إلى السودان فيما تتصاعد المواجهات)، وغالبا ستبلور القوى السياسية مواقف أوضح من الصراع، خصوصا أن بعضها أدرك أن انحيازه لـ"الدعم السريع" بغية الوصول إلى السلطة وإزاحة قيادة الجيش الحالية لم يعد أمرا سهلا كما تصوروا، كما أن هذا السيناريو يتطلب التعاون مع أطراف إقليمية، ودعماً من أطراف دولية، وهو ما بدا في التبلور، مع زيارات قوى الحرية والتغيير دولاً أفريقية وعربية، وكذلك زيارة البرهان القاهرة وما جرى تداوله عن زيارات سيجريها مستقبلا، لكن هذا التعاون يحتاج إلى تنسيق.
ويتبقى أن تصل القوى السياسية السودانية إلى حد أدنى من التوافق، خصوصا التي لعبت دورا مركزيا في ثورة السودان، ولم تتورّط في دعم مليشيات الدعم السريع بعد الحرب، أو قبلها حين انقلب مجلس السيادة على حكومة حمدوك، وهذه القوى التي حملت آمال التغيير بسودان موحّد وديمقراطي وعادل ستكون جزءاً من الحلّ، بعد وقف إطلاق النار، خطوة ضرورية لتجاوز سيناريوهات خطرة.

D75BB17B-0520-4715-86EC-B6995DA95615
عصام شعبان

باحث في الأنثروبولوجيا الاجتماعية بجامعة القاهرة، أحد مؤسسي الجمعية الوطنية للتغيير، عضو المجلس الأعلى للثقافة لدورتين متتالتين، عضو شعبة العلوم الاجتماعية. أحد كتاب الرأى في صحيفة وموقع "العربي الجديد".يقول: "نفعل كما يفعل السجناء، نربي الأمل".