مشاهد فارقة في الفضاء التّحرُّري لطوفان الأقصى

مشاهد فارقة في الفضاء التّحرُّري لطوفان الأقصى

25 نوفمبر 2023
+ الخط -

لا يمكن لأيّ حدث، مهما كان كبيراً، أن يصنع ما صنعته عملية طوفان الأقصى، إذ إنّها أضحت نقطة فارقة في منعرج العلاقات الدّولية برمّتها، يجب التوقف عندها في عشرة مشاهد من شأنها تغيير سياق القضيّة الفلسطينية ومسارها، في قلب ذلك كلّه، مع ملاحظة أن "طوفان الأقصى" ليست من طبيعة الأحداث الكبرى التي يُنتظر منها النّصر، في النّهاية، لأن النّصر، في هذه الحالة، يأخذ شكل (ومضمون) الرّمزيات التي ستشير إليها المقالة، ويُقاس على أساسها.

يشير المشهد الأوّل إلى هول السّقطة التي وقع فيها صاحب نظريّة "الحديقة والغابة"، منسّق السّياسة الخارجية للاتّحاد الأوروبي، جوزيب بوريل، في حديث له لقناة الجزيرة، عندما ادّعى أنّه ليس محامياً للحكم على عمليات الكيان الصهيوني في غزّة بأنّها جرائم حرب، لكنّه، بعد برهة، فقط، أجاب بالقطع بأنّ عمليات المقاومة، يوم 7 أكتوبر/ تشرين الأول، هي جرائم حرب، وهي، بدون أن يدري، تلخيص للحالة التي وصل إليها الخطاب الأخلاقي والمعياري للاتّحاد الأوروبي التي فشلت في كل ملفّ دولي حاولت التّدخُّل فيه وتتعمّق، مرّة بعد مرّة، في التّبعية لأميركا في سياستها الخارجية والدّفاعية، وتقف الموقف الذي سينزع عن الحديقة أيّة قيمة، بل، أبعد من ذلك، ستجرُّ الاتّحاد الأوروبي إلى جريمة الفاعل المشارك في سياق الجريمة الإنسانية التي تقع أطوارها في غزّة على مشهد من العالم، كلّه.

أمّا المشهد الثاني فهو يشير إلى سقطة مزدوجة للبيت الأبيض و"البنتاغون"، حيث عاد الرئيس الأميركي، بايدن، إلى ترديد سردية الكذبات الصهيونية بشأن ارتكاب المقاومة جرائم شنيعة (قطع رؤوس الأطفال أو حرق المدنيين)، بعد تكذيبها لها في وقت سابق، بعد تبيّن أنّها زيف دعائي لم يثبت صحته، في حين أن النّاطقة الرّسمية باسم "البنتاغون" تلعثمت في سياق إجابتها عن سؤال بشأن التقارير الاستخباراتية التي تروي السردية الصهيونية الخاصة بمواقع قيادية مزعومة لحماس والمقاومة في المستشفيات المستهدفة (الشفاء ثم الإندونيسي)، حيث لا رجال للبنتاغون على الأرض. وفي الوقت نفسه، تدّعي النّاطقة الرسمية صحة المعلومات التي تستند إليها السردية الصهيونية، ما يدلُّ على أنّ البيت الأبيض فاعل مشارك ومعني بكلّ الجرائم المرتكبة في غزّة، من ناحية، وأنّ السّياسة الأميركية، بعد ترسيم الرئيس الأميركي السابق، ترامب، القدس عاصمة للكيان، ونقل سفارة الولايات المتّحدة إليها، ها هو بايدن، بسبب اقتراب الموعد الانتخابي الرئاسي (نوفمبر/ تشرين الثاني 2024)، يؤكّد أهمّية متغيّر التّأييد اليهودي لمرشّح ما له وزنه، من ناحية أخرى. وهذا يعني أنّ أميركا لم ولن تكون شريكاً نزيهاً في أيّة عملية سلام مزعومة، بعد نزع الغطاء الانحيازي عنها في حرب غزّة.

هناك يهود وقّعوا بيانات، وتظاهروا في نيويورك وغيرها، طالبوا بردّ متكافئ وليس اقتراف جرائم، ما يعني أن الصراع ليس بين الإسلام واليهودية

المشهد الثّالث الذي يرتكز على سياق العبارات التّي بُني، على أساسها، الخطاب الإعلامي والسّردية المبرّرة للجرائم الصهيونية، وهي تدور، عند استضافة الضيوف المناصرين أو المؤيّدين للقضية الفلسطينية، ممثّلين لسلطتها أو من بين القوم المعتقد، فيهم، أنّهم كذلك، بشأن وجوب التّنديد بـ"جرائم حماس"، ليأتي الجواب من هؤلاء إنّ السّردية الواقعية تقتضي الانطلاق من منطق الصراع، أي التّناقض الصارخ بين عنف المحتل وعنف الواقع تحت الاحتلال، والحق ظاهر فيها أنّ الاحتلال يستدعي شرعية مقاومته، وهو عين الخطاب الذّي صرّح به الأمين العام للأمم المتّحدة، أنطونيو غويتريس، بأنّ عمليّات 7 أكتوبر لم تأتِ من فراغ، أي إنّ ثمّة شرعية لمقاومة المحتل، وأنّ الرّد عليه ليس دفاعاً عن النّفس، بقدر ما هو إصرار على تأكيد شرعية المقاومة، بكلّ أشكالها.

ويتضمّن المشهد الرّابع تلك الإطلالات الإعلامية للنّاطق الإعلامي باسم كتائب عز الدين القسّام التّي أضحت مهرجاناً خطابياً، غطّى على سردياتٍ كثيرة بل بلغ صدى صوته أكثر من القنوات الإعلامية، بل وأكبر من النّدوات الصحافية التي يعقدها النّاطق باسم جيش الاحتلال ووزير الخارجية الأميركي، بلينكن، ذلك أنّ عباراته والمفاهيم التي يستخدمها إضافة إلى التّفاصيل التي يرويها هي الحقيقة التي ينتظرها كثيرون في العالم كما تمّ تشبيهها، من حيث تأثيرها، بصوت العرب، تلك الوسيلة الإعلامية التّي كان يصدح جيش التّحرير الوطني، في الجزائر، في أثناء الحرب التّحريرية الكبرى (1954-1962)، رافعاً بها صوت التّحرير ومؤثّراً في الجموع الكبيرة من الثُّوار والجزائريين، كلّهم.

من شأن المشهد الخامس إحداث تأثير تاريخي، لأنّه سيعمل على نزع الغطاء على البكائيات/ المظلوميات الصهيونية بشأن المحرقة التّي يرتكبها جيشُه في غزّة، بل هناك حديث عادي، الآن، من بعض المعلّقين على القنوات الغربية، ممن انقادوا إلى القول إنّ الصّهاينة أزالوا، بجرائمهم، الغطاء الأخلاقي على رمزية بكائية تعرّضهم للمحرقة على أيدي النازية، ذلك أن الضحية لا يمكنه أن يكون مثل جلاده التاريخي، ويعيد إنتاج مأساته تماماً، مثل ما يقوم به الجيش الصهيوني منذ 70 عاماً في فلسطين، وبصفة خاصّة، في زمن الثورة الاتصالية، وما يقترفه من جرائم في غزة في 2023. والأكبر، في قصة انقلاب سحر البكائيات على الكيان الصهيوني، أن تلك المراجعة للسردية تأتي من الغربيين، من خلال تظاهرات بمئات الآلاف، بل هناك يهود وقّعوا بيانات، وتظاهروا في نيويورك وغيرها، طالبوا بردّ متكافئ وليس اقتراف جرائم، ما يعني أن الصراع ليس بين الإسلام واليهودية، بل هو قيمي باسم الانسانية، ليس أكثر ولا أقلّ من ذلك.

لقد أضحى إيلون ماسك، وهو أغنى رجل في العالم، في مشهد سادس، من ضحايا "طوفان الأقصى" بعد عبارة قالها عن غير قصد، حتماً، أنّ ما تقوم به قوات الجيش الصهيوني لا يفيد، وأن الجرائم والقسوة في الرّد، إضافة إلى المظالم على مرّ العقود الماضية، ستساهم في ميلاد عشرات المقاومين، ملمّحاً إلى أنّ العبث بلغ مداه في مقاربة مواجهة الأوضاع في فلسطين. لم يستسيغ الصّهاينة ومؤيدوهم ما قاله إيلون ماسك، فبدأت حملة ضد شركاته وأسهمه، بل وجرت دعوة إلى مقاطعته، على أساس أنّ تصريحاته لا سامية، وراسمة لسياق الشّرعية لأعمال المقاومة. وهذا، حتماً، مرّة أخرى، من بركات طوفان الأقصى التّي أنطقت مشاهير العالم بما يمكن اعتباره انتصاراً للقضيّة، على خلفية كلّ التّعمية الإعلامية الغربية، والانحياز الصّارخ للجرائم وتبنّي سرديّته للأحداث على حساب الحقّ الفلسطيني والضّحايا، بالآلاف، منهم.

فضيحة للمجتمع الدولي الذي لم يحرّك ساكناً في مجلس الأمن، للوصول إلى قرار يدين العمليات الوحشية للكيان

يأتينا المشهد السّابع من فرنسا، حيث تتناقض الرّسالة الحضارية لمهد الدّيمقراطية وحقوق الإنسان، من خلال شعارات الثّورة الفرنسية، مع ما تبثُّه وسائل إعلامها واستوديوهات برامجها السّياسية التّي تنطق كلُّها بعكس تلك الرّسالة، شكلاً ومضموناً، ولعل ما يمثّلها، أنموذجاً، تلك المفاهيم الخاصة بالمساواة التي وضعتها الثورة الفرنسية في محور اهتماماتها. ولكن بمعيارين تحدّث بهما رئيسها، عندما وصف قطع روسيا الماء والكهرباء عن الأوكرانيين بأنّه جريمة حرب وسكت عن مثلها في غزّة، بل دعا إلى استراتيجية دولية/ تحالف دولي لمحاربة حركة حماس، على غرار تلك العملية الدّولية التي أنشأها الغرب لمحاربة "داعش" غداة عمليّاتها في العراق وسورية، في منتصف العشرية السّابقة. بل ما يعمّق تلك التّناقضات في ذلك الإعلام "الحضاري" و"الإنساني" هو تلك التّصريحات التّي تدعو إلى أنّ الإنسان الفلسطيني ليس مثل/ لا يساوي (في قيمته وفي إنسانيته) ذلك الصهيوني الذّي جرى الغدر به، زعماً، يوم 7 أكتوبر بل، أيضاً، وأبعد من ذلك، ومن دون أن تتحرّك سلطة الضّبط للإعلام في فرنسا، سمعنا وشاهدنا دعوة إلى قتل مليوني غزّاوي، إذا استدعى الأمر، لتنتهي قوات الجيش ودولة الاحتلال من "حماس" ومن هول ما وقع لهما في عمليّات المقاومة الفلسطينية بداية الشّهر الماضي.

تلك العمليات، في المشهد الثّامن، تلخّصها، من الناحية الاستخباراتية، تلك المداخلة من صحافية أميركية كانت تسأل، في قناة كلّها مساندة للكيان الصهيوني، هناك، في أميركا، عن كيفية الحصول على المعلومات التي على أساسها ادّعى جيش الاحتلال أن مستشفيات غزّة مقرات قيادة لعمليات سياسية وعسكرية لحماس والقسّام، في حين أنّ عملية 7 أكتوبر شهدت فشلاً ذريعاً للمعلومات الاستخباراتية الاستباقية، للكشف عن نذرها أو بداياتها حتى، مما أدّى إلى تلعثم العسكري الصهيوني في الرد وخروج القناة، بعدها، بتوجيه الانتقاد إلى الصحافية التّي أحرجت السّردية الصهيونية تماماً مثل ما وقع للصّحافي محمّد قاسي في قناة TV5 الفرنسية، حيث تجاوز، وفق بيان القناة، ما يُتاح للخطّ التّحريري للقناة بتوجيهه أسئلة إلى سياسي صهيوني في مقابلة صحافية أبانت عن ضحالة السّردية الصهيونية للعملية العسكرية، وهمجيته في التّعامل مع الإنسان الفلسطيني، على الدّوام، منذ أكثر من 70 عاماً.

طوفان الأقصى كان الرد المناسب على سكون العالم أمام ما يجري لفلسطين بعد صفقة القرن، وما كان يحاك لتصفية القضية

يشير المشهد التاسع، حقاً، إلى رمزية حقوق الإنسان وكرامته من خلال مشهد زيارة مسؤول في محكمة الجنايات الدّولية إلى معبر رفح (بعد إيداع عشرات من الحقوقيين شكاوى بشأن ارتكاب الكيان جرائم حرب في غزّة)، ليتأكد، بنفسه، من أنّ المساعدات لا يسمح لها بالعبور إلى القطاع، بالرغم من تكدّسها، هناك، ما يزيد من معاناة الغزّيين الذين فقدوا كل شيء، ولم يعد لهم من أمل إلا انتظار الموت، حيث نفد الوقود، أُخرجت المستشفيات عن العمل، بل ظلت تُهاجم، ووصل الأمر إلى الأكل الذي نفد، وبدأ شبح المجاعة يخيّم على من لجأ إلى جنوب القطاع هرباً من الضّربات الجوية وصواريخ الكيان التي تريد تحقيق هدف وحيد، وهو تهجير سكان غزّة إلى سيناء، وفق ما رشح من مخطّط بمرجعية مذكّرة استخباراتية، وقعها مجرم الحرب رئيس وزراء الكيان، نتنياهو، وتدعو، في نقاط ثلاثة، إلى تفريغ غزّة من سكانها بصفة نهائية لتجنّب ما وقع بداية الشهر الماضي، مستقبلاً، وفق مفهومهم وإدراكهم الوضع.

ننهي المقالة بمشهد عاشر، يحمل فضيحة المجتمع الدولي الذي لم يحرّك ساكناً في مجلس الأمن، للوصول إلى قرار يدين العمليات الوحشية للكيان، ليكون هذا بمثابة نعي لوفاة الضّمير الأخلاقي الدولي الذي كان يصرّح، ليل صباح، بأنّ ثمّة حقوقاً للإنسان، كرامة له وبأن الدبلوماسية الدولية ستعمل على معاقبة التجاوزات في حقّ الإنسان. والأمر سيان، هنا، بين روسيا وأميركا وبريطانيا وفرنسا والصّين، فالجميع متفّق على أنّ ما يجري في غزّة مجرّد عمليات عسكرية ستضرّ بالاقتصاد الدّولي، وبانتعاشه من آثار جائحة كوفيد 19، ثمّ الحرب الرّوسية الأوكرانية، بل سارعت مؤسّسات "بريتون وودز" وصندوق النقد الدّولي والبنك الدّولي إلى وضع سيناريوهات لأزمة أسعار النّفط (من مائة دولار إلى 150 دولاراً، وفق تقديرات النقص في السّوق الدّولية إذا قامت حرب إقليمية ولم يتم تأمين ممرّات النفط، خصوصاً من الخليج)، إذا ارتقت الحرب وأخذت مساراً إقليمياً بتدخّل إيران، مثلاً، أو أطراف محسوبة على هذه الدّولة أو تلك من مليشيات أو جماعات مسلّحة.

تلك مشاهد من بركات طوفان الأقصى الذّي كان الرد المناسب على سكون العالم أمام ما يجري لفلسطين بعد صفقة القرن، وما كان يحاك لتصفية القضية، وما كان لا لحماس وللفلسطينيين، بل ولا لنا، كلنا، أن نصمت عن أوضاع انتهت إلى ما نحن فيه... رحم الله الشُّهداء، ولا عزاء للخذلان والمتخاذلين.