مدينة في حضن غابة

01 مايو 2023

قوارب سياح في البحيرة الغربية في هان جو (29/4/2023/Getty)

+ الخط -

ستّ ساعات قضيتُها ورفاق السفر في القطار السريع المغادر بنا من بكين إلى مدينة هان جو في الجنوب الصيني، مجموعة متنوعة قادمة من غانا، كوستاريكا، نيجيريا، بلغاريا، الأردن، إضافة إلى مضيفينا الصينيين. مضى الوقت بنا سريعا، وذلك للألفة التي تكوّنت سريعا، بالرغم من اختلاف الخلفيات الثقافية. كان الطريق إلى هان جو مُحاطا بالجبال المغطّاة بغابات البامبو التي تتخلّلها مزارع الشاي، مشاهد بديعة لا تملك إذا كنتَ قادما من بيئةٍ صحراويةٍ إلا أن تُصاب بالصدمة الجمالية. تحدّق مليا كي لا يفوتك أيٌّ منها، تخشى أن يغلبك النوم، ولو برهة، حتى تظلّ متأهبا في حضرة الطبيعة باهرة التفاصيل. 
عبّرتُ لصديقةٍ من غانا عن انبهاري بجمال الأخضر القاتم الذي يحيط بنا من كل صوب. قلت لها: "كان على أمنا الأرض أن تكون أكثر عدلا". أجابت، محاوِلة إغاظتي، نجحت في ذلك: "حيث أعيش في غانا هناك غابات كثيرة. أحيانا يصبح الأمر مملّا. أتخيّل الحياة في الصحراء أكثر اتصالا مع السماء". وافقتها على ذلك، وكتمتُ غيرتي بعد حديثها عن طبيعة بلادها الغنّاء، وأخذتُ أحدّثها بزهوٍ عن مدينة البتراء وجمالها الأخاذ. استغللت مشاعرها الدينية، وهي مسيحية متديّنة، ورحتُ أشرح لها طقوس التعميد في نهر الأردن. لم أعترف لها بأنه ليس نهرا بالمعنى الحقيقي للكلمة، بل مجرد سيل شحيح المياه. لم أشأ أن أخدش مخيلتها أو أخيب أملها. أجبت عن أسئلتها المتلهفة عن بيت لحم وكنيسة المهد وكنيسة القيامة. غبطتني لأني أعرف هذه الأماكن التي تشكل حلما بالنسبة لها. قال زميل نيجيري إن زيارة البتراء على قائمة الأهداف التي يطمح إلى تحقيقها. شجّعته على هذا، وراودني إحساسٌ جميل بالاعتزاز. ولاحظتُ مدى انتماء الصينيين واعتزازهم بوطنهم ومدى فخرهم بالمنجزات العظيمة، وشدة إخلاصهم في تأدية مهامهم بإتقانٍ شديد، وحرصهم على تقديم صورة إيجابية عن بلدهم. والحق إن لديهم كل مبرّرات الإحساس بالزهو الكبير. 
وصلنا إلى هان جو، وكانت تمطر بغزارةٍ. لا توصف المدينة إلا بالساحرة. تظهر بوضوح على مواطنيها ملامح الثراء والرفاهية، كون الأغنياء 60% من تعداد سكانها (10 ملايين نسمة)، بشوارعها الواسعة المنظّمة النظيفة ومبانيها الجميلة وأبراجها العالية وجسورها وقناطرها. وقد مزجت ببراعةٍ بين الحداثة والأصالة، فحافظت على روح المكان العتيق، ولحقت بركب النهضة العمرانية الحديثة العصرية. لم تبخل عليها الطبيعة، فجادت عليها بالمطر طوال أيام السنة. مدينة بأكملها تقطن في حضن غابة، تحيط بها الجبال الخضراء من كل جانب، وفي كل زاويةٍ منها تنشر البحيرات والأنهار والسواقي. تعجّ بالمتاحف والمعارض والموسيقى والغناء والرقص والحرف التقليدية والمهرجانات المسرحية والورش التشكيلية وحفلات أوبرا الماء البديعة، حيث تسنّى لنا مشاهدة حفل أوبرالي مذهل، يحكي قصة من التراث الصيني القديم، خلال جولتنا على متن قارب فيما الممثلون يقدّمون مشاهدهم المسرحية على جنبات البحيرة، المجهزة فنيا على مستوى رفيع من حيث الضوء والصوت والموسيقى. تسنّى لنا التجوّل في الأسواق الشعبية والانخراط في الضجيج الجميل، وتأمل الألوان الصاخبة وتنشقّ روائح التوابل اللاذعة، وتذوّق الأطباق الشهية، والتواصل مع أهل المدينة الذين يحبّون الضيوف ويحتفلون بهم. لمستُ ورفاقي مدى كرم الصينيين، إذ يُفرطون في الحفاوة بالضيوف، ويطبّقون مثلا صينيا مفاده كلما ابتعدت مسافة البلد التي قدم منها الضيف زادت طقوس إكرامه احتراما لجهده في الوصول إليهم.
أربعة أيام رائعة قضيتُها بين هذا الشعب الطبيب الخلوق المحبّ للحياة. تجربة ثريةٌ تسنّى لي اختبارها بمعيّة مجموعة أصدقاء جُدُد، جمعتني وإياهم مشتركاتٌ كثيرة أكدت لنا أننا، نحن البشر، متشابهون في أحلامنا ومخاوفنا وطموحاتنا وأفراحنا وأحزاننا وتوقنا إلى غد أفضل يعمّ البشر أينما وجدوا على وجه هذه البسيطة الحافلة بالمفاجآت على مختلف أشكالها.

AD06A645-8A0A-4B42-9292-5FC44B5D51C6
بسمة النسور

كاتبة أردنية، تحمل الليسانس في الحقوق، صدر لها ست مجموعات قصصية، وكتبت نصين مسرحيين. تكتب في الصحافة العربية منذ 1990، وتشغل موقع رئيسة تحرير مجلة "تايكي" المتخصصة بالإبداع النسوي.