ما بعد اشتيّة

ما بعد اشتيّة

29 فبراير 2024
+ الخط -

باستقالة محمد اشتيّة من منصبه رئيساً لوزراء السلطة الفلسطينية يكون رئيس هذه السلطة، محمود عباس، قد استجاب لأحد الشروط الأميركية المعلنة على هذه السلطة لتأهيلها لمرحلة ما بعد حرب الإبادة على غزّة. وليس المطلوب تأهيلها فعلياً، بل إخضاعها أكثر وخفض سقوفها، المنخفضة أصلاً، على أمل انخراطها في خططٍ غائمةٍ يفترض أن تنتهي بإدماج إسرائيل في المنطقة، وهي مندمجة أصلاً، وبإعلان مسارٍ لا رجعة عنه، بحسب المسؤولين السعوديين، لقيام دولة فلسطينية. أما الأهم من ذلك كله إجرائياً فهو إقصاء حركة حماس، سواء عن إدارة قطاع غزّة أو بسط السلطة عليه في المرحلة الانتقالية التي يُفترض أن تدير السلطة الفلسطينية خلالها القطاع بمساعدة بعض دول الإقليم، وهو ما ترفضه إسرائيل أصلاً.

بهذا المعنى، لا علاقة لاستقالة اشتيّة بما يسمّى إصلاح السلطة، بل تغيير وظيفتها أو توسيع دورها الوظيفي، لتؤهّل نفسها للحقبة المقبلة، وذلك يتطلّب فيما يبدو نزع الدور السياسي لهذا السلطة والتركيز على دورها المدني والإداري، وهذا بالغ الخطورة، فعلى الرغم من استقالة هذه السلطة من دورها في تمثيل شعبها تحت الاحتلال، وتحوّلها إلى جهاز بيروقراطي وشرطي ضخم ومشلول ومترهل، إلا أن إبعادها عن القيام بدور سياسي كارثة على الشعب الفلسطيني، وإنفاذ لشروط اسرائيلية لا ترى في هذه السلطة سوى جهاز أمني "يسيطر" على مجموعات سكّانية. وبهذا، تعني استقالة اشتية تفكيك صلاحيات رئيس السلطة نفسه لصالح رئيس وزراء جديد، على ألا يتمتّع الأخير بهذه السلطات، أي إلغاءها، وخفض صلاحيات هذه السلطة ورئيسها ورئيس وزرائها دفعة واحدة.

لو كانت نتيجة ذلك الانتقال، بقوة الدفع على الأقل، إلى منظمّة التحرير الفلسطينية لإدارة الملفّات الكبرى، لقلنا إن ذلك يمكن تفهمّه، لكن الخطط الأميركية التي يتم تسريبها لا تلحظ دوراً حقيقياً للمنظمّة، فواشنطن تتحدث عن سلطة فلسطينية وهزيمة "حماس" وإخراجها من الملعب خلال المرحلة الانتقالية، وعن اعتراف بدولة فلسطينية وليس الاعتراف بقيام دولة فلسطينية، فهل يلعب محمود عبّاس ضد نفسه؟

يراهن الرئيس الفلسطيني على بضاعته الوحيدة، وهي الاعتدال في حدوده القصوى، وعلى أنّ الأميركيين لن يجدوا أفضل منه، من حيث مبدئية خياره ومصداقية أدائه، وعلى أنّ المنظومة العربية لن تخذله حتى لو كانت لديها تحفّظات عليه، وأنه لا خيار لإسرائيل بالتالي سوى العودة إليه أو لمن يعمل تحت إدارته، لكن ما يغفله عبّاس أن أي خطط أميركية أو مشتركة تخضع، في نهاية المطاف، لموافقة (أو رفض) إسرائيل التي تتمتع بقدرٍ عالٍ من الاحتراف في تكييف أي مطالب توافق عليها بما يفرّغها من حقيقتها، ويجعلها أقرب إلى الرؤية الإسرائيلية الشاملة فيما يتعلق بالانفصال عن الفلسطينيين، سواء بإدارة الأخيرين شؤونهم الذاتية، أو حتى لو أدّى الانفصال إلى قيام دولة فلسطينية. وفي هذه الحالة، لديها معطى جاهزٌ تطوّع به عبّاس، بضغط أميركي أو من دونه، يتمثل في منح بعض صلاحياته لرئيس وزرائه، وفي تحويل السلطة الفلسطينية أو تكريسها جهازاً بيروقراطياً لا سياسياً لإدارة شؤون الفلسطينيين، لا تمثيلاً لهم وتعبيراً سياسياً عنهم يطمح إلى إنفاذ سيادته على أرضه وشعبه. وتتفاقم مشكلة الرئيس عبّاس في أن ذلك إذا صحّ يُضعف موقفه باعتباره رئيساً لمنظمّة التحرير أيضاً، فالمنظمّة تحوّلت في عهده المديد إلى جثة، ومكاتب جرى إغلاقها، ومرجعية لا تُلزم أحداً بل ولا تمثّل القوى الفاعلة على الأرض، ما يعني أن عبّاس سيدفع أثمان استقالته من دوره الحقيقي، وقبوله الأوضاع التي آلت إليها المؤسّسات الفلسطينية في عهده، من حيث انفصالها عن شعبها وعن أدوارها المفترضة. وستكون الأثمان باهظة أكثر عليه لو تبيّن أن الخطط الأميركية مجرّد وعود ورهانات خائبة في حال رفضتها إسرائيل، ولم ترغب واشنطن في إنفاذها في اليوم التالي لحرب الإبادة.

والحال هذه، سيكون ما بعد اشتيّة أسوأ مما يتوقع كثيرون، فالمشكلة ليست في الأشخاص بأعينهم، بل في القيادة نفسها التي أفرغت المؤسّسات من أدوارها وتركت شعبها في عراء الكون كله، تحت القصف والقتل والتقتيل، وهي تظنّ أن مفهوم التمثيل يكفي لبقائها، بينما ما يحدُث هو تفكيك الجميع وإضعافهم، ولا شك في أن عبّاس يعي هذا لكنه لا يقاومه للأسف.

زياد بركات
زياد بركات
قاص وروائي وصحفي فلسطيني/ أردني، عمل محررا وكاتبا في الصحافتين، الأردنية والقطرية، وصحفيا ومعدّا للبرامج في قناة الجزيرة.