ما الألم الأشدّ إيلاماً من الموت؟

ما الألم الأشدّ إيلاماً من الموت؟

13 فبراير 2024
+ الخط -

لعلّ السؤال المبهم في العنوان أعلاه عدميٌّ لا محل له في حياة الناس، ولا موجب له على الإطلاق، وأحسب أنه لم يدر في خلد فيلسوف أو روائي أو صانع أفلام، وربما لم يُطرح على الفكر الإنساني في أي وقت، ولم يشغل بال مثقف أو جنرال أو كاتب صحافي، باعتبار أن الموت هو الحقيقة النهائية المطلقة، وكل ما عداه نسبيٌّ ومحلُّ اجتهاد، كما لم يعد أحدٌ من الموت كي يخبرنا عن درجة الألم الذي يصاحب المتوفّى، ويُثري من ثمّة معارفنا بمعاناة سكرات النهاية الحتمية لكل كائنٍ بشريٍّ مهما طال به العمر.
غير أن هذا السؤال الفظ، الفائض عن الحاجة الموضوعية، تسلّل أخيراً من بين مشاهد الموت بالجملة، المتدفّقة من قطاع غزّة، أطلَّ بأنف وعينين، ونطق بلسانٍ وشفتيْن، حيث جرى تداوله على هامش حرب الإبادة، بصفاقة مذهلة، بين نجوم الحوارات الليلية في استديوهات الإعلام العبري، أولئك الذين طالبوا بجدّية بالغة بوجوب اختراع ألم أشد من ألم الموت الزؤام، لإنزاله بضحايا المذبحة في القطاع المحاصر، كما حثّوا قادتهم، بإلحاح، في أجهزة الأمن والاستخبارات، على إيقاع ألمٍ أشدَّ هولاً مما تبثه الشاشات، وأبلغ مغزىً من خطاب حرب الإبادة، على "الحيوانات البشرية" في غزّة، بمن فيهم آدم ويوسف وهند، وغيرهم من عشرات آلاف الأطفال والنساء في القطاع الباسل.
والحق، شغل هذا السؤال العجيب الغريب بال مُنشئ هذه المطالعة التأملية، وظلّ يداهم فكره بين الحين والحين، إلا أنه ظل رغم إلحاحه على الذهن عصيّاً على الإجابة، هائماً في مدار الخيال، حيث بدا افتراضياً للغاية، إن لم نقل إن طرحه هكذا بدا مجرّد لوثة عقلية طارئة، أو محض ثرثرة مجانية، أملتها من دون ريب حالة هستيرية مفرطة أصابت القوم في 7 أكتوبر/ تشرين الأول وأخرجتهم عن الطوْر دفعة واحدة، وذلك إلى أن كشفت بعض التحقيقات الاستقصائية المحدودة، ووثقت بعض الفيديوهات القليلة، المنقولة من الفضاء الإسرائيلي، حقيقة أن قتلة الأطفال والأنبياء هؤلاء، أصحاب العقلية الإجرامية المتوارثة أباً عن جد، قد فعلوها بالتمام والكمال، وأنهم قارفوها في الميدان، عبر سلسلة من الفظائع المدوية، أتت على نحو أشدّ إيلاماً من الموت. 
وفق صحيفة هآرتس، اعترف جيش الاحتلال، أخيراً، بأن شعبة الحرب النفسية لديه تدير قناة على منصّة إنستغرام تحت اسم "72 حورية"، تخصّصت في عرض صور وأفلام فيديو حصرية من داخل غزّة، بثت الآلاف منها مصحوبة بتعليقاتٍ جنونية، مثل "ها نحن نحرق أمهاتهم/ اسمعوا تكسير العظام/ نبيد الصراصير/ نبيد الفئران/ شاركونا هذا الجمال/ نغمس فوّهات بنادقنا بدهن الخنازير/ هؤلاء عُصارة القمامة/ وغيرها من العبارات البذيئة. وفي أحد المقاطع الفيلمية، ظهرت عربة عسكرية تدهس غزّياً مرّة تلو مرّة، مع تعليق فاجر "هذه ليلة سعيدة لا تُنسى، نحن ندهس أبناء الزنا، شاركونا هذا الابتهاج".
يضيق المجال عن استعراض كل تلك المشاهد والتعليقات التي يواصل جيش الاحتلال توثيقها عن جرائمه المتواصلة في غزّة، وفي الضفة الغربية أيضاً، من دون التفاتٍ إلى ما قد تصدره محكمة العدل الدولية، وربما محكمة الجنايات الدولية مستقبلاً، من أحكام إدانة بارتكاب أم الجرائم (الإبادة الجماعية)، ليس فقط جرّاء الاستهانة بأعلى مرجعية قضائية في العالم، أو نتيجة الحس بالأمان والشعور بالحصانة ضد أي محاسبةٍ محتملةٍ فحسب، وإنما أساساً بفعل حالة الجنون المستشري في أوصال مجتمع عنصري متغطرس لا يزال منتشياً بخمرة الخامس من يونيو/ حزيران 1967، ويبدو أنه لم يفق بعد من تلك السكرة الماجنة، رغم رعود "طوفان الأقصى"، ومرور نحو أربعة أشهر وأزيد، تجرّع خلالها كؤوساً طافحات بالدم.
بالعودة إلى السؤال في العنوان أعلاه، نجد أن "عبقرية العقل اليهودي" قد تفوّقت على نفسها، وأنتجت، عياناً بياناً، ألماً أشد إيلاماً من الموت، حيث تفتقت هذه العقلية الشريرة عن براءة اختراع حصرية خاصة بها، خلال هذه الحرب الانتقامية، ليس فقط في أساليب القتل والتدمير والتجويع والترويع بكل أشكاله الابتكارية، وإنما تفنّنت كذلك، بجدارةٍ واستحقاقٍ كامليْن، في "إبداع" ألمٍ يُضاعف ألم الموت مرّاتٍ ومرّاتٍ، ألم معزّز بالصوت والصورة، ألم لا مثيل له في الحروب الكونية، ولا سوابق له في المروّيات التاريخية، ولا توازيه مِثلاً بمثل سوى جرائم الإبادة الجماعية السحيقة، تلك التي حفلت بها أسفار العهد القديم ومزاميره، ولا سيما أفاعيل يوشع بن نون في أريحا والقدس وشكيم وكل أرض كنعان.

45AB6A9D-38F9-4C2C-B413-9E5293E46C8D
45AB6A9D-38F9-4C2C-B413-9E5293E46C8D
عيسى الشعيبي

كاتب وصحافي من الأردن

عيسى الشعيبي