لمّا اقتنَع صلاح فضل بكرة القدم

لمّا اقتنَع صلاح فضل بكرة القدم

13 ديسمبر 2022
+ الخط -

لم يوفّر صاحب هذه المقالة الناقد صلاح فضل، غير مرّةٍ في هذا المطرح في "العربي الجديد"، من النقد والانتقاد، لأسبابٍ غير قليلةٍ أوجَدها فضل نفسُه، فسوّغت رميَ ما لم يكن حسنا منه بما يستحقّ من نقاط نظام وبطاقات حمراء وصفراء، فهو لم يكتفِ بتطرّفه في الاصطفاف مع سلطة الانقلاب الراهنة في مصر، وإنما بالغ في حاله ذاك، بكيفيةٍ خصمَت كثيرا من مكانته أستاذا ثقيلا في النقد ومناهج درس النص الأدبي وفي القراءات التطبيقية للنصوص الإبداعية، وصاحب مؤلفاتٍ مرجعيةٍ في علم الأسلوب والبنائية والواقعية، عدا عن دراساتِه الموصوفة، عن حقّ، بالتميّز، في دانتي ودون كيشوت والأدب الإسباني، وغير هذا كله من مطالعاتٍ دلّت على رؤيةٍ نقديةٍ وتحليليةٍ حاذقةٍ حقا. ولمّا كان المقام هنا هو وفاة صلاح فضل، رحمه الله، أول من أمس الأحد، فإنّ القول هنا عن القيمة العليا لجهده النقدي ليس من باب "اذكُروا محاسن موتاكم"، فالرجل اسمٌ لامعٌ في فضاء الكتابة النقدية العربية منذ الثمانينيات. وإنما يأتي هذا القول للعبور منه إلى قولٍ آخر، موجزُه أنّه كان أكرم لصاحب "أساليب الشعرية المعاصرة" أن يبقى في اختصاصاته في علوم النقد الأدبي، والمسرح الإسباني، والأندلسيات، و"شفرات النص"، بدل جنوحِه إلى غير سقطةٍ وسقطة، من قبيل رئاسته لجنة لجائزة القذافي للآداب، وسطوه على رئاسة مجمع اللغة العربية في القاهرة، ومشاركته في لجنة صياغة الدستور الذي أعمل فيه عبد الفتاح السيسي، لاحقا، ما نعرف، لمّا عدّل فيه للبقاء رئيساً إلى ما شاء الله، وصمتِه عن انتهاكاتٍ مروّعةٍ وحبس مثقفين وناشطين، ودعوتِه إلى مقاطعة قطر وجوائزها بزعم دعمها "الإرهاب"... كان الأدْعى لصاحب "بلاغة الخطاب وعلم النص" أن يكون شُجاعا، أو أن يصمت، بدل الذي أوْدى نفسه فيه.
ترك صلاح فضل كتاب سيرةٍ فكريةٍ له سمّاه "عين النقد" (دار الشروق، القاهرة، 2013)، يبقى رائقا ومفيدا، وإن احتاج إلى التخفّف من التكرار، وإلى أن يأتي على جوانب أغفلها. وهو يُسْعف في التعريف جيدا بشخصية صاحبه ومصادر تكوينه المعرفي والثقافي. ولأنّ ليس في وسع هذه العُجالة أن توجز مضامين الكتاب، فإنها تنتقي منه، في لحظة الأعراس الكروية الحاضرة، مقطعا عن ازدراء صلاح فضل كرة القدم، ونقدِه المنصرفين إلى متابعة مبارياتها، ثم مغادرة موقفه هذا، وتحبيذِه مزايا طيّبةً في اللعبة الأكثر شعبية، بعد قراءته عملا أدبيا يحتفي بفضائلها (!). وهذا للحقّ غريب، فالرجل أقام، إبّان عمله في المعهد المصري للدراسات الإسبانية في مدريد (درس فيها الدكتوراه ودرّس فيها) على بعد خطواتٍ من استاد ريال مدريد، وعاين عن قربٍ الشغف العريض بكرة القدم، غير أنّه، ربما بسبب حرمانه في صباه من ممارسة أي رياضة، وكانت تربيتُه أزهريةً صارمةً، ظلّ يرى الحماس بكرة القدم فعلا أخرَق، يستنزف طاقات الشباب والكبار، ويجد أنّ هذه اللعبة "تسرق وقت الناس واهتماماتهم، وتصرفهم عن العلم والثقافة والأدب" وأنها من "بلايا العصر الحديث". 
يروي صلاح فضل أنّه جادل بقناعاته هذه، وبهجوم شرس على كرة القدم، المعلّق الكابتن محمد لطيف، في جلسةٍ ضمّتهما في مدريد، إبّان كأس العالم في إسبانيا صيف 1982. وقد سمع عن مزايا اللعبة ومحاسنها من الضيف الشهير الذي اعتبر هذا الجدال "تحدّيا يتطلّب مواجهةً عقلية بروحٍ رياضية"، غير أنّه لم يفلح في أن يزيح شيئاً من قناعات جليسِه ومُجادله، والتي غيّرتها تاليا قصةٌ لأبو المعاطي أبو النجا (لعله يقصد رواية "ضد مجهول"). يقول فضل إنّ هذا النص جسّد له فلسفة كرة القدم، وشرَح مزاياها، والقيم العصرية فيها، ومنها "تعلُّم الجمهور العمل بروح الفريق"، وأنّها تخضع لقوانين معلنة يحفظها اللاعب والمشاهد، وأنّها "تقدّم دروسا في السلوك والديمقراطية والتعايش المدني الناجح".
طريفٌ هذا حقّا أنّ روايةً تغيّر (أو تصحّح) قناعةً لدى صلاح فضل بشأن كرة القدم، روايةً كَتب عنها من كَتب إنّها قدّمت هذه اللعبة "معادلا موضوعيا" لحياةٍ جديدةٍ في قريةٍ مصرية، فيما وقائع كانت قدّام صاحب "جماليات الحرية في الشعر" في السنوات العشر الأخيرة لم تصحّح حَوَلا في منظوراتٍ استبدّت به بشأن السلطة والعسكر والديمقراطية ودور المثقف وفاعليته و... إلخ.

معن البياري
معن البياري
رئيس تحرير "العربي الجديد"، كاتب وصحفي من الأردن، مواليد 1965.