لحظة الحقيقة في سدّ النهضة

لحظة الحقيقة في سدّ النهضة

25 ديسمبر 2023
+ الخط -

بعد أكثر من 12 عاماً، اكتشفت مصر عدم جدوى التفاوض مع إثيوبيا بشأن مشروع سد النهضة. 12 عاماً مُتصلة في تفاوض وتباحث ومشاورات ووساطات، تخلّلتها كل فترة حزمة متنوعة من التبريرات أشبه بحبوب التهدئة والتسكين لهواجس المصريين ومخاوف الخبراء والمراقبين من الاستمرار غير المفهوم في تلك المفاوضات العبثية، فقد التزم الخطاب الرسمي المصري، طوال هذه السنوات، لغةً هادئة ولهجة تعاونية. وكان واضحاً حرص الإعلام على تخفيف القلق الشعبي من مخاطر مشروع السدّ بمختلف مراحله من الإنشاء إلى الملء ثم التشغيل. وترافق هذا الخطاب العام مع رفع شعاراتٍ رنّانة عن حماية أمن مصر ومصالحها، من دون مضمون محدّد بشأن خطواتٍ أو إجراءاتٍ عمليةٍ تحول دون حدوث أي ضرر أو انتقاصٍ من حصّة مصر المائية، وهي أساساً غير كافية. 
ولا يمكن للمراقب أن ينسى أحد أشهر المشاهد الهزلية في هذه القضية، حين زار رئيس وزراء إثيوبيا أبي أحمد القاهرة وأقسم أنه لن يسبّب ضرراً لمصر (!). ولا يمكن كذلك نسيان أو تجاهل الخطوة الشكلية التي ثبت لاحقاً أنها لم تكن ذات قيمة، وهي التوقيع في فبراير/ شباط 2015 على إعلان المبادئ. فقد استغلت إثيوبيا ذلك التوقيع في تحصيل التمويل المطلوب لإكمال مشروع السد، واتّخذت من الإعلان غطاءً قانونياً تُبرّر به التعنّت في المفاوضات. بل تسوّق للعالم أن توقيع مصر والسودان عليه موافقة منهما على المضيّ في بناء السد. وفي المقابل، كلما غضبت مصر، كانت تصعّد موقفها، فتخاطب إثيوبيا بلهجة قوية، وتطالبها بإبداء حسن النيات، وقبول اتفاق ملزم حول ملء السد وتشغيله، والتزام إعلان المبادئ.
باختصار، كانت المواقف المصرية، طوال الأعوام الماضية، تؤكّد أنها ليست جادّة في مواجهة ذلك المشروع الإثيوبي الخطير، وإلا تحرّكت سياسياً وقانونياً، بل وعملياً لإجهاضه، وهو بعد في مراحله الأولى. وكلما مرّ الوقت، ومضت إثيوبيا في خطوات بناء السد ثم في مراحل ملئه، ازداد التخاذل المصري وضوحاً وانكشافاً. حتى إذا وصلت أديس أبابا إلى الملء الرابع لخزّان السدّ، لم يعد هناك ما يمكن إخفاؤه، حيث بات مشروع السد أمراً واقعاً وبنياناً ضخماً يكاد يمتلئ بمليارات الأمتار المكعّبة من المياه، حتى بات يستحيل إرجاع عقارب الساعة إلى الوراء، فلم يعد هدمه ممكناً ولا تفريغ مياهه عملياً، ففي الحالتين، سيقع الضرر المباشر على دولتي المصبّ، مصر وقبلها السودان.
وها هي القاهرة تنتفض غضباً مرّة أخرى، فأوقف الوفد المصري الأربعاء الماضي مسار التفاوض، واتهم إثيوبيا بالمماطلة والتسويف. بل قال وزير الموارد المائية والري المصري، هاني سويلم، إن سدّ النهضة سيُحدِث إضراراً بمصر، وإن القاهرة "تحتفظ بكل الخيارات لحماية أمنها ومصالحها". وهو أمرٌ مثيرٌ للتساؤل عن احتمالات حدوث تحرّك مصري مختلف، أو أن تبادر إلى خطوة كانت منتظرة طوال 12 عاماً، اكتمل المشروع خلالها، وأصبحت كل الخيارات البديلة أمام مصر، صعبة إلى مستحيلة. 
لكن الواقع يقول إن اعتراف مصر علناً بالحقيقة الواضحة من اللحظة الأولى تأخّر طويلاً. فالغضب المصري العلني لا يساوي شيئاً، ولا يعني سوى أن أديس أبابا ستكمل ما بقي من مراحل المشروع، دون أي مضايقاتٍ، بل من دون الانشغال بمفاوضات أو لقاءات أو حتى تصريحات مُسكّنة لتهدئة المصريين. 
ويؤكّد هذه الحقيقة الصادمة استدراك الوزير المصري بأن القاهرة ستراقب من كثب عمليات ملء السد وتشغيله. ما معناه أن لا شيء يمكن عمله، وستكتفي مصر بالشكوى ومتابعة سلوك إثيوبيا الأحادي كما تابعته أعواماً، ثم ستستأنف الشكوى، بعد أن يتأذّى المصريون من السدّ وتشحّ مياه النيل بعد بدء تشغيل السد.

58A20E76-8657-4557-85A3-A5682BEB4B9A
سامح راشد

باحث مصري متخصص في العلاقات الدولية والشؤون الإقليمية للشرق الأوسط. درس العلوم السياسية وعمل في مراكز أبحاث مصرية وعربية. له أبحاث ومقالات عديدة في كتب ودوريات سياسية.