لحظات الشعور بالزلزال

18 سبتمبر 2023

(ديانا وايت)

+ الخط -

"حذر، كأني أحمل/ في كفّي الوردة/ التي توبخ العالم"... من مجموعة الشاعر المغربي الراحل أحمد بركات "لن أساعد الزلزال".
كنتُ في فاس لحظة حدوث الزلزال المفجع في المغرب، والدرامي أني كنتُ، في تلك اللحظة، أعيش صراعا مع ابني مازن بقصد ترويضه، وفجأة اهتزّت الغرفة. ظننتُ الأمر، بداية، نتيجة ركل الطفل الجدار والنافذة والباب، وهو يجري ثائرا من دون سبب من مكان إلى آخر في الغرفة. ولما رأيت الثريّا في السقف تتراقص، انتابني شعور بالغرابة. وحين هدأ الحال، قمت من مكاني، لأنظر من نافذة الشقة، حيث الشك ما زال يساورني في حدوث أمر غريب، فرأيت الجيران في حالة هرج ومرج، وهم يخرجون من منازلهم حائرين في ذهول ليلي. لم أخرج، إنما بدأت في تقليب القنوات التلفزيونية. الرقم الوحيد المفزع أن الزلزال كان بقوة سبع درجات على مقياس ريختر، ولا تُعرف بعد أيّ التفاصيل. 
مضى الليل حتى منتصفه، فاخترت أن أركن إلى النوم، تاركا الباقي لحسابات القدر والقدير. ولكن مفاجأة كانت في الصباح حين وجدت أن الضحايا وصلوا إلى حدود ستمائة قتيل، ناهيك عن عدد الجرحى والمفقودين، والعدد في تزايد، خصوصا في القرى والمداشر النائية التي لم يظهر لها ذكر بعد. تؤكّد القنوات المغربية الخبر مع صور وتقارير ساخنة واتصالات من الأهالي. وحين خرجت إلى الشارع، حيث كان عليّ أن أتجه إلى صيدلية بالقرب من شارع محمد الخامس. لمحت في الطريق الذهول الذي يخيّم على الناس، بعد أن استيقظوا على أخبارٍ أعتى من الكوابيس. كان صاحب سيارة الأجرة الذي ركبت معه منهمكا في حديث مع سيدة بجانبه عن الزلزال، يتخلّله رفع الأيدي بإشارات تسليم بقضاء الله وقدره. حين وصلت إلى الصيدلية اضطررت إلى أن أقف خلف طابور قصير، أمامي سيدتان مسنّتان. وعلى غير العادة، حين  يدخل المحتاج دواء بهدوء إلى الصيدلية ويأخذ مطلبه بعد أن يؤدّي ثمنه، وإن جاد بشيءٍ فلا يزيد عن عبارة "السلام عليكم". هذه  المرّة كانت السيدتان تشرعان في حديثٍ طويل مع الصيدلانية الشابة، وبالتناوب. وكان الحديث عمّا حدث ليلة البارحة، ثم ما فوجئن به صباحا من ضحايا أعدادهم في تصاعد.
في العودة، وبدافع التأمل، اخترت أن أقطع نصف الطريق مشيا على قدمي. وكنت أمر على مقاه. رأيت رجلين يقفان فجأة لينظرا إلى شاشة التلفزيون، وكانت تلفزيونات المقاهي التي مررتُ بها مفتوحة على قناة الجزيرة وبصوت مسموع. أقف قليلا لأسمع ما يحدّث به المذيع من نشرة يقرأها أمامه، وفي الوقت نفسه، لأنظر إلى الأخبار العاجلة المكتوبة بخطّ عريض في أسفل الشاشة. كان المؤلم أن أعداد الضحايا في ازدياد، فما كان ستمائة زاد على الثمانمائة. حين وصلت إلى البيت، وقبل أن أفتح جهاز التلفزة، اطمأننت على أصدقاء من مرّاكش وآسفي. لم تكن الرباط والمدن الأخرى ضمن حساباتي. جميع  من سألت عنهم  كانوا بخير، لديّ صديق قديم لم أره من ثلاثين عاما، يقطن في أوريكه التي تقع ضمن حدود إقليم الحوز الذي ضربه الزلزال. أتذكر أنه زار عُمان في التسعينيات، ومنها جاء بمشروع بناء فندق بسيط على هيئة قلعة عُمانية، لم أستطع الحصول على رقمه بسبب تباعد التواصل بيننا، ولكني تذكّرته رأسا بسبب الزلزال! 
ذهبتُ في المساء إلى أحد أسواق فاس الشعبية المفتوحة. هناك يمكن للأذن أن تلتقط الأصوات وهي تتنزّه حرّة في محيط الباعة الواقفين والجالسين أمام عرباتهم المتحرّكة، المليئة بالفاكهة والخضار والأسماك بأنواعها، ناهيك عن عربات الأوعية المنزلية والبيض والخبز، ثم الجالسين على الجانبين، وقد افترشوا مبيعاتهم، ثم عربات مخصّصة للكتب المدرسية استقبالا للعام الدراسي الجديد. كان حديث الناس في العموم عن الزلزال، والكلام تتخلّله عبارات صوفية يمتاز بها المغاربة، تتكرّر فيها جمل موجزة ومعبرة، من قبيل "لطف الله" و"رحمة الله"، وعبارات التسليم  بالقدر خيره وشرّه.

593B5A80-7333-4F6B-AC2C-800C049BDB93
593B5A80-7333-4F6B-AC2C-800C049BDB93
محمود الرحبي

كاتب وقاص عُماني، صدرت له تسع مجموعات قصصية، وأربع روايات، فاز بعدة جوائز عربية

محمود الرحبي