لبنان في خطر

23 أكتوبر 2022
+ الخط -

وافق لبنان، أخيراً، على بنود اتفاقية ترسيم الحدود البحرية مع الاحتلال الصهيوني، التي أثارت جدلاً كثيراً قبل توقيعها وبعده، بين من يراها انتصاراً إلهياً ووطنياً لبنانياً، وآخرين اعتبروها صفعة مدويّة للبنان وحقوقه، وربما لمجمل المنطقة. إذ انقسمت الآراء وفق الأهواء السياسية غالباً بين مؤيدي إيران وحزب الله ومعارضيهما، الأمر الذي أفقد تحليل الاتفاق وتفنيده جزءاً كبيراً من أهميته، على الرغم من الجهد الكبير الذي مارسه رئيس وفد لبنان المفاوض الأسبق؛ العميد الركن المتقاعد بسام ياسين، في هذا المجال، عبر مقابلاته التلفزيونية المتعدّدة ومنشوراته على صفحات التواصل الاجتماعي، في أثناء المفاوضات وبعد انتهائها.

انطلاقاً من الانقسام السياسي الحاد بين معارضي إيران والحزب ومؤيديهما في لبنان والمنطقة، يبدو من الضروري فهم أسباب (وتوقيت) موافقة لبنان على هذا الاتفاق تحديداً، لفهم تداعياته ونتائجه المحتملة التي تمكّن المعنيين لاحقاً من تحديد توجهاتهم وخطواتهم المقبلة. نجد في المواقف الرسمية اللبنانية تأكيداً متواصلاً على هدف لبنان الأول، المتمثل في تحوله إلى دولة نفطية، على اعتباره المخرج الأسلم اقتصادياً من الأزمات التي تعصف به، وهو ما ذهب إليه أمين عام حزب الله أيضاً، حسن نصرالله، في خضم تعليقه على الاتفاق المتبلور، قائلاً "ما يهم الحزب هو استخراج النفط والغاز من الحقول اللبنانية". لم يحدّد ثمن تحقيق ذلك، كما لم يدخل في كيفية الاستخراج وتوقيته، فتحول لبنان إلى دولة نفطية؛ في فهم المنظومة الطائفية المسيطرة على لبنان، سوف يؤدّي لا محالة إلى تطويق الغضب والاحتجاج الشعبي، ويعيد الاستقرار لتلك المنظومة، التي عانت منذ ثورة 17 تشرين من ويلات الغضب الشعبي. ولكن خيرات الاتفاق؛ وفق رؤى المنظومة الطائفية المسيطرة، مؤجّلة إلى موعد غير محدّد، فالأمر مرتبطٌ بتوقيع اتفاق مع شركات أو شركة تنقيب موثوقة لبنانياً وصهيونياً؛ وفق بنود الاتفاق، كذلك بدراسة الحقل وجدواه الاقتصادية، وأخيراً بتوصل الاحتلال الصهيوني إلى اتفاق مع الشركة أو الشركات المنقبة، يتعلق بآلية منح الاحتلال حصّته؛ المزعومة، من الثروات النفطية. يتطلب ذلك كله زمناً طويلاً يؤجّل تحوّل لبنان إلى دولة نفطية، إلى موعد لاحق، وربما يفتح الباب أمام جولات تفاوضية لبنانية - صهيونية جديدة، وبالتالي، يؤخّر خيرات الثروات النفطية المفترضة، يؤجل حل الأزمات الاقتصادية الداخلية، وهو ما يقود إلى تأخير احتواء الغضب الشعبي ولو بحده الأدنى.

عائدات النفط المفترضة مؤجّلة إلى أجلٍ لاحقٍ غير معلوم زمانه

رغم تراجع مظاهر الغضب الشعبي في الآونة الأخيرة؛ بل ربما في العامين السابقين، لم تنجح المنظومة الطائفية اللبنانية في استعادة زمام الأمور اللبنانية الداخلية سياسياً واجتماعياً، وهو ما عكسته نسبياً نتائج الانتخابات البرلمانية مايو/ أيار الماضي. للغضب الشعبي اللبناني أشكال متعددة، منها الظاهر الذي يتمظهر في المظاهرات والاعتصامات المتكرّرة ومختلفة الأحجام والمواقع، ومنها المستتر داخل النفس البشرية، التي يهدّد خروجها إلى السطح سلامة النظام الطائفي ذاته.

أجواء الغضب الشعبي؛ الظاهرة والمستترة؛ المنتشرة، تمثل تهديداً محتملاً خطيراً على سيطرة المنظومة الطائفية اللبنانية كاملةً، بما فيها سيطرة مكونيْها الشيعيين؛ حزب الله وحركة أمل، رغم نجاحهما النسبي في السيطرة على حاضنتهما الشعبية مقارنة بسائر مكونات المنظومة الطائفية. هذا التهديد مرتفع المخاطر، والمحتمل في الوقت ذاته؛ يفرض على المنظومة الطائفية الساعية إلى إدامة سيطرتها العمل على احتواء مظاهر الغضب الشعبي سريعاً، بأي ثمنٍ كان، الأمر الذي يعجز اتفاق ترسيم الحدود عن تحقيقه بكل سلبياته وأخطائه، فعائدات النفط المفترضة مؤجّلة إلى أجلٍ لاحقٍ غير معلوم زمانه.

طبعاً؛ لا تربط المنظومة الطائفية مصيرها بـ" شراء سمك في الماء" كما يقول المثل الشعبي، أي لن ترهن مصيرَها بمسار تحول لبنان إلى دولة نفطية، الطويل وغير المؤكد، بل تسعى، من خلال اتفاق ترسيم الحدود، إلى اكتساب أداة فورية تمكّنها من احتواء الغضب الشعبي، اليوم قبل الغد، تلك الأداة التي فقدتها نتيجة فشلها المتلاحق في إدارة شؤون لبنان الداخلية، المتمثلة في الشرعية الدولية.

بات اتفاق ترسيم الحدود أداة المنظومة الطائفية الوحيدة من أجل إعادة تعويمها دولياً، واستعادة شرعيتها الدولية رغماً عن الشارع اللبناني

أدّت ثورة أكتوبر وانفجار مرفأ بيروت وانهيار صوامع القمح ونهب أموال المودعين إلى نزع شرعية المنظومة اللبنانية الداخلية والخارجية، حتى باتت منبوذةً دولياً، ما أفقدها قدرتها على تدوير الأزمات، تلك القدرة الجهنمية التي تفاخر بها وزير خارجية لبنان الأسبق وصهر الرئيس اللبناني الحالي؛ جبران باسيل، قائلاً "الحال في لبنان تختلف عن واشنطن ولندن، وعلينا تعليمهما كيفيّة إدارة دولة من دون ميزانية، لأن لبنان يتأقلم مع كافة الأوضاع".

بات اتفاق ترسيم الحدود أداة المنظومة الطائفية الوحيدة من أجل إعادة تعويمها دولياً، واستعادة شرعيتها الدولية رغماً عن الشارع اللبناني، وبالتالي، سيطرتها مجدّداً على أموال المساعدات، أو بالأصح إعادة نهبها، فالشرعية الدولية مدخل المنظومة الوحيد الذي يضمن لها الحفاظ على سيطرتها ونهبها ومحاصصتها الداخلية من دون أي تغيير يُذكر. أي باتت استعادة الشرعية الدولية بمثابة طوق نجاة المنظومة الطائفية اليوم، لأنها بوابة المضي في إجراءات الاستدانة بعيدة ومتوسّطة الأجل، التي تمكنها من إعادة تدوير الأزمات اللبنانية الداخلية مرّة أخرى، ويحفظ لها قدرتها على الاستمرار في نهب المال العام والخيرات اللبنانية، من دون أي محاسبة أو مساءلة تذكر.

لم تكترث المنظومة اللبنانية الطائفية بحجم التنازلات التي حملها اتفاق ترسيم الحدود

لم تكترث المنظومة اللبنانية الطائفية بحجم التنازلات التي حملها اتفاق ترسيم الحدود، كما لا يعنيها حجم الثروات اللبنانية التي تخلت عنها، أو حتى تخليها عن سيادة لبنان وأمنه، فكل ما يعنيها اليوم استعادة شرعيتها الدولية ولو مؤقتاً، التي تمكّنها من تحجيم الغضب الشعبي نسبياً أو مؤقتاً، الأمر الذي يمنحها مزيداً من الوقت، ومزيداً من المناورات لا أكثر ولا أقل. وعليه، فاستمرار سيطرة هذه المنظومة الطائفية، بجميع مكوناتها الطائفية المتنوعة، هو الخطر الأكبر على سلامة لبنان وحقوقه وشعبه وأمنهم، فهي تراهن بذلك كله من أجل إحكام سيطرتها ومواصلة مراكمة ثرواتها المالية غير المشروعة، بكل الطرق والوسائل الممكنة.

جميع الكوارث اللبنانية السابقة شواهد حية على مقدار الخطر الكامن خلف سيطرة المنظومة الطائفية اللبنانية، بداية من الصراعات والنزاعات والحروب الطائفية، مروراً بانفجار مرفأ بيروت ونهب أموال المودعين، وصولاً إلى التخلّي والتنازل عن سيادة لبنان وثرواته وأمنهما، مقابل شرعية دولية مؤقتة لا أكثر ولا أقل، أما شعب لبنان فعليه تحمّل كوارث المنظومة الطائفية القادمة أيضاً، إن لم يعد العدّة لتجاوزها في الأمد القريب.

75812723-2689-4553-B56D-72CE271905DB
حيّان جابر
كاتب فلسطيني، مشارك في إعداد ملحق فلسطين.