كان صمتُ نصر الله أبلغ

كان صمتُ نصر الله أبلغ

07 نوفمبر 2023

مناصران لحزب الله في بيروت يحملان صورة حسن نصر الله خلال خطابه (3/11/2023/فرانس برس)

+ الخط -

نادراً ما يُمسك الكاتب قلمه أو يجلس أمام شاشة جهازه، وهو يتمنّى، في قرارة نفسه، أن تكون افتراضاته خاطئة، ورؤيته عن الأمر المطروح ناقصة، وذلك لثقل شعوره بفداحة الاستنتاج المعلّق بعد في سماء الاحتمالات، وربما لبقيّةٍ باقيةٍ من رجاءٍ قابعٍ في حشايا الروح يرفض الانصراف، تماماً على نحو ما كنتُ عليه ساعة تسويد بياض هذه الزاوية المكرّسة للتعقيب على خطاب زعيم حزب الله، حسن نصر الله، الخاص بتطوّرات حرب الإبادة الجارية ضد الشعب الفلسطيني في قطاع غزّة، ناهيك عن الضفة الغربية، منذ نحو شهر وأكثر بلا انقطاع.
منذ اليوم الثاني لحرب الإبادة هذه، سيّما بعد أن تمادت آلة القتل في هدم البيوت على رؤوس السكّان في القطاع المحاصر، واتضح لكل ذي لبٍّ مدى عجز النظام العربي عن فعل أي شيءٍ قادرٍ على كبح جماح الحرب الوحشيّة المفتوحة ضد الأطفال والنساء، انشدّت الأبصار تلقائياً نحو القوّة الوحيدة القادرة، والحالة هذه، على إدخال متغيّر يُعتدّ به في حمأة هذه المقتلة الجماعية المنقولة بالصوت والصورة من عين المكان، وهي قوّة وازنة يُحسَب لها ألف حساب، ونعني بذلك الترسانة الصاروخية الهائلة لحزب الله.
ساد هذا الاعتقاد وراج على أوسع نطاق لدى جماهير عربية "غفورة" أثار حفيظتها الاستهداف المنهجي المروّع للأطفال في غزّة والجوار، فخرجت إلى الشوارع في معظم الدول العاجزة، حتى لا نقول أكثر، عن فعل شيءٍ سوى إصدار بيانات الشجب والاستنكار، وهتفت الحناجر للمقاومة الباسلة، ونادت على حسن نصر الله، صادحةً بما معناه إن هذا اليوم يومك الذي انتظرناه وإياك، لتلقين العدو المتغطرس درساً لا ينساه، ووقفه عند حدّه بعد صبر مديد وترقّبٍ طال مداه، وإن هذه هي ساعة دكّ بيت العنكبوت، وفق ما وصفته قبل نحو عشرين سنة.
كان هذا الرهان على حزب الله في محلّه لدى العرب في سائر الأصقاع والأمصار، نظراً إلى ما أبلاه الحزب في المعارك السابقة مع دولة الاحتلال، فهتفت الحناجر "اضرب تل أبيب يا نصر الله" وزاد من علوّ الصوت الصادح التعبئة الإعلامية والاشتباكات الحدودية، التي ألهبت الخيال العربي الجامح، ورفعت سقف التوقّعات إلى عنان السماء، وهو ما جعل خصوم الحزب وأعداءه، بمن فيهم قادة الاحتلال، يتصبّبون عرقاً وقلقاً ويضربون الأخماس في الأسداس.
وهكذا كان الترقّب في أوجه غداة الخطاب المرتقب على أحرّ من الجمر. وعلى الفور، احتدّت النقاشات والانفعالات. وذهبت تخميناتٌ مختلطةٌ بالتمنيّات إلى حدّ أن نصر الله سوف يقوم بعمليةٍ نوعيةٍ تسبق أو ترافق إطلالته على الملأ، وقد يُعلن عن أجل محدّد لإيقاف المذبحة، والا فإن ترسانته الصاروخية ستقوم بالواجب من دون إنذار، وقد يقول إن تل أبيب مقابل بيروت سناً بسنّ، ومطار بن غوريون قبالة مطار رفيق الحريري عيناً بعيْن، الأمر الذي رفع المعنويات والتوقّعات والتحسّبات لدينا، وأزاغ، في المقابل، أفئدة الأعداء عن مواضعها، وجعلهم يقفون على رؤوس أصابعهم متوجّسين خطر ما قد تُمطره سماء المستوطنات من حمم نارٍ وبارودٍ وموتٍ زؤام.
كان التوقّع أن أمين عام حزب الله قد اختمرت لديه الفكرة وأعدّ لها العدّة، وتأكّد أن طريق القدس لا تمرّ من حمص، اجتاز زمن الوعيد والتهديد، وأن الوقت قد أزف للانتقال من الكلام عن "الجهوزية" ووحدة الساحات وغرفة العمليات المشتركة إلى الفعل على الأرض، ومن ثمّة الوقوف عند حسن الظنّ، عند لهفة الناس المكلومين في غزّة ونداء الشارع الملتاع للردّ على المجازر المتنقلة، فهذه لحظته المواتية، لحظة استعادة مجده الذي كان، غداة حرب العام 2006، قائداً عربياً عابرا للحدود، لجدران الطوائف والمذاهب، زعيماً عربياً وحيداً كان قد زاحم جمال عبد الناصر على التربّع في قلوب الملايين، وهل هناك أعظم من قضية نصرة المظلومين لاستعادة المكانة التاريخية، والبناء على ما حقّقه طوفان الأقصى من نتائج عظيمة؟
غير أن كل تلك التكهنات والتمنيات والمخاوف ذهبت أدراج الرياح، عندما أنهى زعيم حزب الله خطابه المرتقب بفارغ الصبر، بعد نحو مائة دقيقة، على نحو مخيّبٍ لآمال المتعطّشين لوقفة عزٍّ نادرة، لكتابة صفحةٍ أخرى في كتاب الملحمة الجارية، الأمر الذي دفع بعض المخاطبين بهذه الإطلالة إلى القول بحسن نية صادقة: ليت الرّجل ظلّ صامتاً، إذا لم يكن في الأمر خدعة استراتيجية، فقد كان صمتُه بليغاً إلى أبعد الحدود، وثقيلاً على العدو، ومفيداً للقابضين على الجمر في الخندق الأخير في غزّة.