كازاخستان .. في خلفية انتفاضة شعبية

كازاخستان .. في خلفية انتفاضة شعبية

08 يناير 2022
+ الخط -

برز في الشهرين الأخيرين، وقبل اندلاع التطورات الداخلية الكبيرة، اسم كازاخستان مرّتين. الأولى مع انعقاد دورة جديدة من دورات محفل أستانة الروسي يوم 21 ديسمبر/ كانون الأول، والذي يضم ما تسمى الدول الضامنة، روسيا وإيران وتركيا، مع إضافة كل من العراق ولبنان، إلى جانب سورية ممثلة بالنظام والمعارضة. وهو مؤتمر دأبت وزارة الخارجية الروسية على تنظيمه في العاصمة الكازاخية مع رعاية شكلية من البلد المضيف منذ العام 2017. وفي المرة الثانية، برز اسم هذا البلد مع انعقاد قمة جديدة لمنظمة الدول التركية في أنقرة يوم 14 نوفمبر/ تشرين الثاني الماضي، بمشاركة ممثلي الدول الخمس الأعضاء (في المجلس التركي الذي غيّر اسمه إلى منظمة الدول التركية): أذربيجان، كازاخستان، قرغيزستان، أوزبكستان، تركمانستان، تركيا، وقد شاركت هنغاريا في المؤتمر بصفة مراقب.

يكشف الحدثان عن التجاذب الذي يثيره موقع هذا البلد الآسيوي الأوروبي وفي قلب آسيا الوسطى، وتركيبته وتاريخه، بين القوتين، الروسية الكبيرة والتركية الإقليمية، فقد كانت كازاخستان على مدى قرون تحت النفوذ المباشر، الروسي والسوفييتي. وتعرّض سكان هذا البلد، وبالذات في النصف الأول من ثلاثينيات القرن الماضي، لعملية تهجير وإحلال لنسبة من سكانه آنذاك، وهم خليط من الشيشان والتتار واليونانيين والألمان والأوزبك وغيرهم، مع إحلال عدد من الروس محل هؤلاء، ومع بقاء المجموعة العرقية الكازاخية هي الأعلى عددا. وهي سياسةٌ دأبت عليها سلطات موسكو في جمهوريات الاتحاد السوفييتي. كما استخدمت أراضي كازاخستان لإقامة "معسكرات عمل" للمعارضين الذين كان يتم نفيهم من مواطنهم للعمل، عقوبة وبالسخرة في هذه المعسكرات. وكغيرها من هذه الجمهوريات، استيقظت المشاعر الوطنية في هذا البلد مع انهيار الاتحاد السوفييتي في مطلع تسعينيات القرن الماضي، حيث تم انتزاع الاستقلال في ديسمبر/ كانون الأول من العام 1991. وقد تولى الحكم نزار أو نور باييف الذي كان يشغل منصب رئيس وزاء جمهورية كازاخستان السوفييتية منذ العام 1984، غير أن إرث قرنين على الأقل من الارتباط بروسيا ظل يفعل فعله، إذ ظلت اللغة الروسية معتمدة لغة رسمية ثانية في البلاد، فيما تعداد الجالية الروسية أزيد من 25% من تعداد السكان البالغ 18 مليون ونصف مليون نسمة، إضافة إلى وجود باييف نفسه، القيادي الشيوعي السابق، على رأس الحكم، والذي يعدّ من رجالات العهد السوفييتي. وقد لوحظ أنه سارع إلى تأييد آخر رئيس سوفييتي، ميخائيل غورباتشوف، في إجراءته التاريخية، كما كان مؤيدا لخلف الأخير، الرئيس بوريس يلتسين.

أتاح انفتاح كازاخستان النسبي على العالم الخارجي والتحاق طلبة كازاخيين بالدراسة في جامعات الغرب، الفرصة لازدياد الطلب على وقف الحكم الفردي، والانتقال إلى نظام ديمقراطي

بدورها، أخذت تركيا تتطلع، منذ تسعينيات القرن الماضي، وفي عهد الرئيس تورغوت أوزال، إلى إقامة روابط وثيقة مع كازاخستان منذ استقلالها، استنادا إلى الفضاء الثقافي المشترك، كون اللغة الكازاخية تركية، فيما يدين 70% من السكان بالإسلام. وكان الرئيس نزار باييف من مؤسّسي المجلس التركي مع بداية الألفية الثالثة. وقد سعى هذا الرجل إلى الموازنة في علاقاته بين روسيا وتركيا من جهة وبين روسيا والغرب من جهة ثانية، غير أنه أقام نظاما سياسيا فرديا، على الرغم من السماح بتشكيل أحزاب، وعلى الرغم من إجراء انتخابات برلمانية بطريقة معقدة، يجتمع فيها التعيين مع الانتخاب لمجلسي الشيوخ والنواب. وعلى الرغم من الحكم الفردي الذي أنشأه باييف، فإن البلد شهد ازدهارا اقتصاديا مع زيادة ثروته من النفط والغاز. وقد شكلت هذه الثروة نحو 55% من الناتج الإجمالي للبلاد منذ مطلع الألفية الأخيرة. فيما أتاح الانفتاح النسبي للبلد على العالم الخارجي والتحاق طلبة كازاخيين بالدراسة في جامعات الغرب انتشار مفاعيل الثورة التكنولوجية والرقمية بين الجمهور، وتحوّل كازاخستان إلى وجهة سياحية .. أتاح ذلك الفرصة لازدياد الطلب على وقف الحكم الفردي، والانتقال إلى نظام ديمقراطي. وكان باييف قد فاز، طوال حكمه لنحو ثلاثة عقود، بخمس ولايات، وبنسب بلغت أحيانا 97% مع مشاركة 95% من المقترعين، حسب نتائج رسمية، تتسم على الأقل بمبالغةٍ مفرطة. كما قام الرجل بتسمية الماآتة، وهي الأستانة، وتعني العاصمة، باسمه: نور سلطان. وأمام الضغط الشعبي، قرر باييف تسليم السلطات إلى قاسم موجارت توكاييف، مع احتفاظه برئاسة الحزب الحاكم (نور الوطن)، ثم تخلى في نوفمبر/ تشرين الثاني الماضي عن رئاسة الحزب، لكنه بقي رئيسا لمجلس الأمن القومي، الأمر الذي كرّس القناعة بأنه ما زال يحكم من خلف ستار. وقد عمد توكاييف، الأربعاء الماضي، إلى ترؤس المجلس بنفسه، وذلك في انحناء أمام مطالب الجمهور بأن يتوقف باييف عن حكم البلاد.

سعى شعب كازاخستان إلى الاعتراض التام على منظومة الحكم وإلى استكمال الاستقلال، مع حلول الذكرى الثلاثين للاستقلال عن موسكو

يذكر هنا أن قاسم موجارت توكاييف (68 عاما)، من رجالات العهد السوفييتي، إذ التحق بالخارجية السوفييتية منذ 1970. انتقل في 1992، مع إعلان استقلال البلاد من الخارجية السوفييتية إلى منصب نائب وزير خارجية كازاخسان، ثم تولى وزارة الخارجية في العام التالي، وتدرّج إلى رئيس وزراء ورئيس مجلس الشيوخ. وفي 17 يونيو/ حزيران 2019، انتخب رئيسا للبلاد محل باييف، الذي كان قد استقال في مارس/ آذار من العام نفسه. وقد أعلن توكاييف، فور تعيينه، أن نزار باييف هو "مؤسس دولتنا وسيبقى له دور في السياسة". ومن خلال الحزب الحاكم، ومن خلال مجلس الأمن القومي، بقي لباييف بالفعل دور مركزي في الحكم، وقد كان احتكار السلطة هذا في أساس احتجاجات الأسبوع الماضي التي أشعل الغاز (مضاعفة أسعاره) شرارتها، بينما تكمن الأسباب العميقة في وراثة دولة كازاخستان النظام السياسي السابق في العهد السوفييتي ونسقه في الحكم، مع الاحتفاظ بأبرز رجالاته الذين أسسوا حزب "نور الوطن" وريثا للحزب الشيوعي.

وبينما تم قطع الجزء الأكبر من شبكة الإنترنت، منذ يوم الأربعاء، 5 يناير/ كانون الثاني الحالي، مع محاولة الحكم إسدال ستار من التعمية على ما يجري وتصوير ما يحدث من احتجاجات عارمة فعل عصابات إرهابية، إلا أن أنباء التطورات الداخلية اجتذبت اهتماما دوليا كبيرا، وانتشرت على نطاق واسع، حيث حرصت وسائل الإعلام الروسية على تصوير ما يحدُث "أعمال شغب"، وأن "عشرات الجنود ورجال الشرطة قد سقطوا بين قتيل وجريح على أيدي المتظاهرين، فيما أبدت وسائل الإعلام التركية الرسمية، حتى صباح الخميس 6 يناير، الصمت على ما يجري، وكما يبدو بانتظار انجلاء وجهة الأحداث.

وجملة القول إن شعب هذا البلد قد سعى خلال الأسبوع الماضي إلى الاعتراض التام على منظومة الحكم وإلى استكمال الاستقلال، مع حلول الذكرى الثلاثين للاستقلال عن موسكو.