في الدفاع عن الأحزاب التونسية

في الدفاع عن الأحزاب التونسية

08 أكتوبر 2022

تونسيون يحتشدون في تظاهرة في العاصمة دعت إليها جبهة الخلاص الوطني (19/9/2022/Getty)

+ الخط -

يعدّ تصريح الناطق الرسمي للهيئة العليا المستقلّة للانتخابات يوم 29 سبتمبر/ أيلول المنقضي لوكالة تونس أفريقيا للأنباء بأن "الأحزاب السياسية لا يحقّ لها القيام بحملات انتخابية أثناء فترة الحملة الانتخابية للاستحقاق التشريعي المقرر يوم 17 ديسمبر القادم"، دليلا قاطعا على أن الأحزاب التونسية، بوصفها محرّكا رئيسيا للشأن العام السياسي، وصمّام أمان اللعبة الديمقراطية القائمة على الاختلاف الفكري والسياسي والتعدّد الحزبي والتنظيمي والتداول السلمي على السلطة، هي المستهدف الأول من الرئيس قيّس سعيد ومفهومه للدولة ومقاربته للحكم. وقد عبّر عن هذا الاتجاه بوضوح المرسوم عدد 55 لسنة 2022 المتعلّق بالانتخابات والاستفتاء في فصله عدد 107 جديد "يجري التصويت في الانتخابات التشريعية على الأفراد في دورة واحدة أو دورتين عند الاقتضاء، وذلك في دوائر انتخابية ذات مقعد واحد"، ودوّن تفاصيله الدستور الجديد الذي أُقرّ بعد استفتاء 25 جويلية (يوليو/ تموز) 2022.

تعرّض هذا الدستور إلى الأحزاب في ثلاثة فصول في شكل إشارات عابرة تفتقد إلى المضامين السياسية ذات المعنى والدلالة. جاءت الإشارة الأولى في الفصل عدد 40 "حرّية الأحزاب والنقابات مضمونة. تلتزم الأحزاب والنقابات والجمعيات في أنظمتها الأساسية وفي أنشطتها بأحكام الدستور والقانون وبالشفافية المالية ونبذ العنف". ووردت الثانية في الفصل عدد 21 "تضمن الدولة حياد المؤسسات التربوية من أي توظيف حزبي". أما الثالثة فقد ضُمنت في الفقرة الأخيرة من الفصل عدد 92 "لا يجوز لرئيس الدولة الجمع بين مسؤولياته وأية مسؤولية حزبية". لا غرابة في الصيغة التي تجلّت من خلالها الأحزاب السياسية في النصوص الدستورية والقانونية للرئيس سعيّد، فبعد تجاهلها وعدم ذكرها بالمرّة في النظام المؤقت للسلطات العمومية المعروف بالمرسوم عدد 117 لسنة 2021، المرجع الرئيسي في الحكم بدلا عن دستور 27 جانفي (يناير/ كانون الثاني) 2014، لم يعط دستور سعيّد أي وظيفة للأحزاب، واكتفى بالقول إن حريّتها مضمونة من دون تمكينها من حقّها في ممارسة الحكم وتشكيل الحكومات أو إسقاطها أو مراقبتها ومساءلتها، فقد أوكلت هذه المهام لرئيس الجمهورية دون سواه (الفصلان 101 و102 من دستور 2022). وعلى عكس ذلك الخيار، كان الفصل الثاني من المرسوم المتعلق بتنظيم الأحزاب السياسية لسنة 2011 بيّنا في منح ممارسة السلطة للأحزاب المنتخبة، معتبرا أن "الحزب جمعية تتكوّن بالاتفاق بين مواطنين تونسيين يساهم في التأطير السياسي للمواطنين، وفي ترسيخ قيم المواطنة، ويهدف إلى المشاركة في الانتخابات قصد ممارسة السلطة في المستوى الوطني أو الجهوي أو المحلي". وهذا الأمر ثبّتته بعد ذلك الفقرة الثانية من الفصل عدد 89 من دستور سنة 2014 "في أجل أسبوع من الإعلان عن النتائج النهائية للانتخابات، يكلّف رئيس الجمهورية مرشّح الحزب أو الائتلاف الانتخابي المتحصل على أكبر عدد من المقاعد بمجلس نواب الشعب بتكوين الحكومة خلال شهر يجدّد مرّة واحدة"، وذلك من دون التغافل عن الأحزاب التي قد لا تنال ثقة الناخب التونسي وتختار موقع المعارضة، فقد خصّها الدستور نفسه في فصله عدد 60 بفقرة واضحة المحتوى، جاء فيها "المعارضة مكوّن أساسي في مجلس نواب الشعب، لها حقوقها التي تمكّنها من النهوض بمهامها في العمل النيابي، وتضمن لها تمثيلية مناسبة وفاعلة في كلّ هياكل المجلس وأنشطته الداخلية والخارجية. وتسند إليها وجوبا رئاسة اللجنة المكلّفة بالمالية وخطّة مقرّر باللجنة المكلّفة بالعلاقات الخارجية".

عماد الدول الديمقراطية في كل أصقاع الدنيا وميزتها الرئيسية هي الأحزاب التي تمارس التداول السلمي على السلطة

بقيت علاقة الرئيس التونسي قيّس سعيّد بالأحزاب محكومة بتصوّر قديم أفصح عنه أول مرة سنة 2019 قائلا: "انتهى عهد الأحزاب، ومآلها الاندثار، مرحلة وانتهت في التاريخ"، مضيفا أن "الأحزاب جاءت في وقت معين من تاريخ البشرية، بلغت أوجها في القرن الـ19 ثم في القرن الـ20، ثم صارت بعد الثورة التي وصلت على مستوى وسائل التواصل والتكنولوجيات الحديثة أحزابا على هامش الدنيا وفي حالة احتضار. ربما يطول الاحتضار، لكن بالتأكيد بعد سنوات قليلة سينتهي دورها". وبناء على تلك القناعات، لم يلتق سعيّد قادة الأحزاب الفائزة في انتخابات 2019 ولم يحاورهم إلا لماما، وقد كان يطلب منهم تقديم مقترحات الأسماء لتولي رئاسة الحكومة في وثيقة مكتوبة يتم إيداعها لدى مكتب بوابة القصر الرئاسي بقرطاج، في حال لم يستطع الحزب الفائز تشكيل الحكومة أو عدم القدرة على الحصول على ثقة مجلس نواب الشعب في الآجال المحددة دستوريا، في حين أن الدستور التونسي لسنة 2014 في فقرته الثالثة من الفصل 89 يطالب رئيس الجمهورية "في أجل عشرة أيام بإجراء مشاورات مع الأحزاب والائتلافات والكُتل النيابية لتكليف الشخصية الأقدر من أجل تكوين حكومة في أجل أقصاه شهر". ومنذ 25 جويلية (يوليو/ تموز) 2021 لم يستقبل قيّس سعيد أي قيادي في حزب بصورة رسمية معلنة، معارضا كان أو مواليا لتوجّهه، وإنما كان يكتفي بلقاءات سرّية مع الموالين في إطار الترضيات التي تقتضيها إكراهات السياسة، فهو يرى أن اللقاءات الرسمية والعلنية مع الأحزاب قد تلحق به العار وتسيء إلى صورته لدى الرأي العام. وفي الوقت ذاته، يمكن أن تعطي مشروعية لتلك الأحزاب، وهو الذي يؤمن بأن دورها قد انتهى وهي آيلة للاندثار، هذا علاوة على اعتقاده بأن كل الأحزاب ترمز إلى الفساد وتسعى إلى تحقيق المنافع والمزايا والإكراميات وخدمة المصالح الخاصة والفردية، عبر تولي المناصب القيادية في الدولة.

يستبدل الرئيس سعيّد في إرسائه قواعد الحكم الملائمة لأفكاره الأحزاب بالأفراد، فهو يرى أن الفرد قيمةٌ في حدّ ذاته، وأن المجتمع لا يزيد عن كونه مجموعة من الأفراد لا يحتاجون إلى أجسام وسيطة تنظمّهم على غرار الأحزاب والنقابات العمالية والاتحادات المهنية ومنظمات المجتمع المدني وجمعياته والوسائل الإعلامية والاتصالية. ومن هذه الزاوية، يمكن فهم مقاطعته وسائل الإعلام المحلية، حتى أن آخر ظهور تلفزيوني له يعود إلى سنة 2020 تنفيذا لوعد قطعه على نفسه في أثناء المناظرة التلفزيونية الانتخابية، فهو يعود بالمجتمع، من حيث هو يعي ذلك أو لا يعي، إلى مراحل بدائية متخلفّة عن التطوّر الحضاري للبشرية، قطعت معها النظرية الخلدونية حول المجتمع والدولة قبل ستة قرون، وتقوم على إعلاء قيمة الفرد الذي يستند إلى روابط القرابة والدم والعشيرة، ويجعل منها مرجعه في الانتماء وتأمين الوجود والحماية والفعل السياسي، ما سينتج، في العملية السياسية التي يؤسّس لها الرئيس، سيطرة أصحاب المال ووجهاء القبائل والهيمنة الذكورية الناتجة عن فقدان الضمانات القانونية للتناصف ودخول المرأة المجلس التشريعي الذي سينبثق من انتخابات 17 ديسمبر/ كانون الأول المقبل، في استنساخ للمجلس الكبير الذي كان سائدا في أثناء فترة الاستعمار الفرنسي، وقد أشار إليه سعيّد في نصوصه ومحاضراته الجامعية مرّاتٍ عديدة.

التخلف السياسي قطعت معه تونس بإزاحة نظام بن علي سنة 2011 لتعود إليه بقيادة سعيّد سنة 2021

تتميّز مقاربة الرئيس سعيّد حول الأحزاب السياسية بمكرٍ قلّ نظيره في التاريخ السياسي التونسي الحديث والمعاصر، فقد استطاع أن يزيح الأحزاب من دائرة الفعل السياسي الذي وجدت من أجله من دون أن يمنع حزبا واحدا من النشاط، أو أن يستصدر حكما قضائيا بحلّه أو يغلق أحدٌ مقرّاته أو أن يزجّ قياداته ومناضليه في السجون أو ممارسة مختلف أنواع التعسّف والاضطهاد تجاههم من قبيل الطرد من العمل والتهجير القسري وممارسة الضغوط المختلفة على أفراد العائلة التي تصل إلى حدّ التجويع وحرمان الأبناء من الدراسة، كما كان يحدث إبّان حكم الرئيس الأسبق زين العابدين بن علي. وفي مقابل ذلك، استطاع سعيّد ممارسة نوع من القتل الرحيم والإبادة السياسية الناعمة للأحزاب، ومحو آثارها من جلّ النصوص القانونية الأساسية والثانوية للدولة وإلغاء وجودها من مؤسّسات الحكم المركزية والجهوية في انتظار سحب الإجراء نفسه على المجالس المحلية المنتخبة، استجابة لشروط المرحلة الجديدة التي تقتضي تكريس الفردية في العمل السياسي بديلا عن التنظيمات والأحزاب والروح الجماعية.

ستنتهي مرحلة الرئيس قيّس سعيد عاجلا أم آجلا، وستذهب معها منظومة الفرد - الكيان السياسي، وفوضوية البناء القاعدي، والدستور الذي أفرزته عبقرية الشخص الواحد، غير القابل للتداول في محتوياته وفصوله، بما يضعه في مرتبةٍ مقدّسة، والحكم الفردي المطلق للرئيس الملهم-نصف الإله، وستبقى الأحزاب السياسية التونسية بألوانها الفكرية الدستورية واليسارية والقومية العربية والإسلامية، إفرازات مجتمعية ناتجة عن ديناميكيات تاريخية ذات علاقة بالقضايا الجوهرية التي عاشها التونسيون في ارتباطاتهم الوطنية والإقليمية والدولية على مدى قرن أو يزيد، فهي تستمدّ شرعية وجودها من الحركة الوطنية ومقاومة الاستعمار وتحرير الوطن وبناء الدولة الوطنية بالنسبة لبعضهم، ومقاومة الاستبداد ونصرة القضايا العادلة، وخصوصا القضية الفلسطينية، والمشاركة في الثورة التونسية وبناء الديمقراطية وممارسة الحكم، على ما في ذلك من مخاطر ومحاذير بالنسبة لبعض آخر. تسرّب الفساد أو أي نوع من أنواع الإخلالات والتجاوزات لبعض الأحزاب لا يستوجب نسف التجربة الحزبية برمّتها، وإنما يتطلّب إصلاح الأحزاب ومقاومة ذلك الفساد ومنع التنظيمات التي لم تقبل الإصلاح والتزام القانون على غرار أي مؤسسة أخرى في المجتمع والدولة، أو إسقاطها بواسطة الانتخابات، إن هي فشلت في اختبار الحكم وإدارة الشأن العام ومنح الثقة لغيرها من القوى السياسية في قادم المحطات الانتخابية. وعلى عكس ما يستبطنه خطاب قيس سعيّد ومناصريه وتنسيقياته ومفسّريه، وهم بمثابة التنظيم السرّي الذي يرفض الانتظام القانوني والالتزام بقانون الأحزاب، فإن عماد الدول الديمقراطية في كل أصقاع الدنيا وميزتها الرئيسية هي الأحزاب التي تمارس التداول السلمي على السلطة، أما إذا غابت الأحزاب وتمكّن الفرد بواسطة القوة الصلبة أو المكر الناعم المستند إلى الأوهام الشعبوية، فذلك هو عنوان الدولة التسلطية والاستبدادية والتخلف السياسي الذي قطعت معه تونس بإزاحة نظام بن علي سنة 2011 لتعود إليه بقيادة الرئيس سعيّد سنة 2021.