غزّة والمعرفة: هل ننحر الجمل بما حمَل؟

غزّة والمعرفة: هل ننحر الجمل بما حمَل؟

04 ديسمبر 2023
+ الخط -

حين نقارب المعرفة من زاوية نظر فلسفية، سياسية تحديدا، تواجهنا أطروحتان كبيرتان: الأولى وضعية، تعتقد أن المعرفة إنتاج عقل بشري تدرّج في مجرى تاريخه الطويل والمعقّد، حتى أدرك درجاته العليا من التجريد، وغدا عقلا خالصا قادرا على الإجابة عن الأسئلة الكبرى التي تطرحها البشرية، وهو، في مساره هذا، ارتكب أخطاءً، ولكنه وصل إلى إدراك حقائق كبرى. تترجم مختلف العلوم والابتكارات والرؤى التي تراكمت خلال مئات القرون أو أكثر على ما وصله الفكر البشري. لقد كانت للحضارات البشرية أقساط متفاوتة من المساهمة فيه. أبدعت حضارات في مجالات، وبرعت حضارات أخرى فيما دون ذلك. وقد نما هذا العقل بشكل لافت في الغرب منذ عصور الأنوار: ترافقت الفلسفة والرياضيات والعلوم الصحيحة، وغيرها من المعارف الإنسانية في كوكبة واحدة من أجل أن تكون البشرية على الوجه الذي رسمت لها هذه المعارف، سواء كانت تلك التحوّلات تُنجز في شكل قطائع أو ثورات أو استمرارات معقّدة ومركّبة، فإن المعارف البشرية مشتركة، وغايتها السعادة والتقدم البشريان. ولا يمكن لهذه النظرة الوضعية أن تدّعي الحياد، رغم كل النزعة الإنسانية التي ترتديها.
الأطروحة الثانية نقدية، قادمة من مشارب مختلفة، ولكنها تقوم على مسلّمة كبرى، تفيد أن المعرفة لا تنفصل عن السلطة، وأن العقل ليس ملكة جوهرية للبشر، إنما هو أداة تستعمل الجماعات من أجل إحكام السيطرة على الطبيعة والبشرية في الوقت نفسه. لا ينفصل العقل هنا عن إرادات الهيمنة والقوة. كافح ميشيل فوكو، وربما من قبله نيتشه، وحتى مدرسة فرانكفورت، من أجل البرهنة على صدق ما نادوا به، وما زال طيف كبير من بعدهما يُثبت صحّة ذلك جورجيو أقامبان، سلافوي جيجك ... إلخ.

في هذه الحرب تتم إعادة صياغة صور المتوحش والبربري التي قام عليها العقل الغربي

والأرجح أن الأطروحة الأولى سقطت بدورها في التبرير، وهي تتابع، في أوج عنفوانها، شراسة العقل الاستعماري  ومعارفه، وغضّت الطرف عن ذلك، ولم تدافع باسم العقل البشري عن إنسانية تلك المجتمعات التي جرى تدميرها. حين كان يُبنى صرح العقل الإنساني الحديث كانت حضارات بأكملها: بشرا وتراثا ومعارف تباد. لذلك، الأطروحة الثانية هي أقرب إلى الصواب لفهم كل هذا الجنون الذي يجري حاليا في غزّة تحت مباركة العقل الغربي هذا.
يبرهن ما يجري، منذ ما يناهز الشهرين في غزّة، على الأرجح، على سلامة الأطروحة الثانية، إذ كيف يمكن أن تستسلم الإنسانية، وتحديدا هذا العقل الإنساني، لكل هذه الجرائم التي تُرتكب؟ ألم يبرهن الغرب تماما، سواء في عقله التقني الأداتي: تكنولوجيا حربية متقدّمة، أدوات مراقبة، شبكات إعلام يتم التحكم فيها والتلاعب بها من أجل إخضاع السيطرة على هذا الجنون والانفصام الخطير. 
كيف يمكن تماما أن ينحاز طيف واسع من المفكّرين والمثقفين، من دون أي تحفظ أو تنسيب، لإسرائيل فيما ترتكبه من مجازر؟ في هذه الحرب تتم إعادة صياغة صور المتوحش والبربري التي قام عليها العقل الغربي، ولكن بمسحة جديدة تشتغل على إدراج الإرهاب ضمنها. تقوم الصورة والدعاية المضلّلة على إعادة صياغة عقل المتلقي الغربي عموما من أجل شيطنة الفلسطيني، والعربي المسلم عموما، ليستحقّ القتل بلا شفقة، بل على هذا النحو يبدو قتله واجبا إنسانيا وبشريا، لا بدّ للغرب أن يتطوّع لتنفيذه والقيام به ضمن مسؤولية تخليص الإنسانية منه.

غزّة فرصة للمساهمة في صياغة العقل على أسس أكثر إنصافا وإنسانية

هذا العقل الغربي الحديث الذي أباد حضارات بأكملها في "العالم الجديد" الذي اكتشفه تحت مسوّغات عديدة: متوحّشون  عدوانيون، بدائيون. ما زال العقل الغربي يجتهد في تحديث صورة المتوحّش، آخذا بالاعتبار السياقات الطارئة. تشرّع الآلة الإعلامية التي تستند إلى عقل غربي لقتل الفلسطينيين، باعتبارهم شرّا مطلقا. كانت أولى الصور التي جرت إدارتها والتلاعب بها هي صور قتل "حماس" الأطفال واغتصاب النساء ... إلخ. يلعب الإعلام على ما ابتكره العقل الغربي من "محرّمات" الحرب، ولكنه يتعامى، في الوقت نفسه، عن هذه المحرّمات، أخلاقية كانت أو قانونية أو قيمية إنسانية، تنتهك، في اليوم الواحد مئات المرّات، من دون أن تثير تعاطف الضمير الإنساني. يكدّ العقل الغربي من خلال الإعلام والنخب الفكرية والسياسية في البحث عن مشروعية الحرب، بتصويرها ردّا واجبا يتم باسم البشرية قاطبة، حفاظا على "الإنسانية". التقابل الحدي بين مملكة الخير والنور، كما ذكر ذات يوم نتنياهو، وأبناء الظلام هو استعادة سردية قديمة موغلة في التاريخ، ولكن تمت استعارتها منذ نهض العقل الغربي في عصر أنواره.
لن تكون لهذه الحرب تداعيات فكرية ثقافية كبرى وعميقة إلا إذا استطعنا نحن، عرب، مسلمون، أحرار العالم أينما كانوا، أن نكون قادرين على تحرير العقل الإنساني من هذه المركزية المفرطة، وهذه معركة فكرية بالأساس، لا يقودُها التشنّج وتجريم ما أنتجه العقل الغربي جملة وتفصيلا، بل من خلال نقد وتفكيك بليغ لبِنيته التسلطية الكامنة في طبقاته الغائرة. غزّة فرصة للمساهمة في صياغة العقل على أسس أكثر إنصافا وإنسانية.

7962F3C9-47B8-46B1-8426-3C863C4118CC
المهدي مبروك

وزير الثقافة التونسي عامي 2012 و2013. مواليد 1963. أستاذ جامعي، ألف كتباً، ونشر مقالات بالعربية والفرنسية. ناشط سياسي ونقابي وحقوقي. كان عضواً في الهيئة العليا لتحقيق أَهداف الثورة والعدالة الانتقالية والانتقال الديموقراطي.