غزّة عبدالله أبو شميس

غزّة عبدالله أبو شميس

22 ديسمبر 2023
+ الخط -

هل في الوُسع أن نقرأ قصيدةً انكتَبت في ظلال حربٍ عدوانيةٍ سابقةٍ على فلسطينيي قطاع غزّة، ونرى فيها ما يُناسب القول في غضون المذبحة الراهنة النشطة التي يرتكبها الجيش الإسرائيلي على الفلسطينيين أنفسهم وأبنائهم وأحفادهم؟ نعم ولا، بحسْب الذي تتوفّر عليه هذه القصيدة من إمكانات العبور من زمنها إلى مدىً أبعد، وبحسْب الحرارة التي تظلّل هذه القصيدة، خفوتا وارتفاعا. ... يحضُر السؤال، وبين يديك المجموعة الشعرية الرابعة للشاعر الأردني عبد الله أبو شميس (1982)، "شهود غزّة" (أزمنة، عمّان، 2021)، عندما تقرأ قصائدَها القصيرة غالبا، بعد أن يُخبرك الشاعر إنها كُتبت بين كانون الأول 2008 وحزيران 2010، والواضح أنها من أجواء عدوان 2008/ 2009. ترى أن منها ما ينطقُ عن الذي نُبحلِق عليه في هذه الأيام على الشاشات، آتٍ من هناك، من الجحيم في غزّة. يكتُبُ الشاعر في مقطعٍ من قصيدة "من بعيد". "...، هي غزّةُ/ بعد شتاء الفجيعةِ/ غرفةُ غازٍ بحجم الطبيعةِ/ توقِدُها شعلة الخوفِ ../ لم نتقدّم كثيرا عن الكهفِ/ ما زال يكفي صراخٌ قليلٌ/ لنُشعل ليلَ العُداةِ/ ونهرُبَ للظلمةِ المطبقةْ". تُراها الفجيعةُ تشبه كل فجيعةٍ في كل وقت؟ لا، ولا يجوزُ أن نرى الفجائع هكذا، غير أن من جميل الشعر ما ينزَِع عن أي فجيعةٍ راهنيّتَها، لحظيّتها، ليرميها في التاريخ، في الأبدي إن استطاع. 
لنقرأ عبدالله أبو شميس في قصيدة "في الظلام": "... نزلوا فوق منزلنا/ من شقوقِ الظلام. لم نكُن نائمين/ ولكنهم نزلوا كالكوابيسِ/ قالوا اخرُجوا/ فخرجنا../ وقالوا: سنقتُلكُم حين نفرغُ/ فانتظروا.. / فذهبنا إلى منزلٍ في الرّكامْ/ وانتظرنا ثلاثَ ليالٍ/ ثلاثين شخصا/ بدون طعام وماءٍ../ فطمنا الرضيع على حجرٍ/ ورضعنا الغمام. ...". عن أي ركامٍ في غزّة كتب الشاعر، عن أي جوع؟ هل هما اللّذان كانا في تلك الحرب قبل 14 عاما، أم اللّذان قدّام صاحب هذه المقالة على شاشة التلفزيون؟ لنفرأ أيضا في القصيدة نفسها "...، وخرجْنا من الموت نزحفُ/ فوق الصدورٍ/ سلخنا الرمال بأضلاعِنا/ وجرَحنا الصخور ../ عَبَرْنا/ وبعضُ المصابين لم يستطيعوا العبورَ/ ولم يخرُجوا من شقوق الظلام". ثمّة موتٌ، وناجون كأنهم خرجوا من بين الصخور، وثمّة مصابون لم يستطيعوا العبور (من مستشفى الشفاء أم من معبر رفح أم من ماذا؟). تجوزُ أسئلةٌ مثل هذه، لكنها لا تتوجّه إلى القصيدة، فليس من مهمّات الشعر أن يلبّي إجاباتٍ، وإنما تتوجّه إلى قارئ القصيدة في غضون القتل المستمرّ في شمال القطاع ووسطه وجنوبه. 
يكتُب عبدالله أبو شميس (دكتوراة في الأدب والنقد، خمس مجموعات، مترجم) في قصيدته "مشي في ليل غزّة" "أحتاج أكثر من عينيْن.. / من قلبِ/ لكي أرى كل هذا الموتِ/ يا ربّي". أظنّنا، يحتاج الواحدُ منّا أكثر من عينين لكي يرى كل الموت الذي يضجّ هناك، عسانا نرى ما أمكنَ أن نرى. ذلك أن الشاعر قالها في قصيدته "من بعيد": "لم أكُن شاهدَ المحرقةْ/ ما رأيتُ من الفحْمِ/ غير القليل من الجسد الآدميٍّ". إذن، لا نرى على الشاشات إلا القليل من أجساد موتى هناك مُتاحة. أمّا كم قلبا تحتاج، وأنت تتلقّى طوفان قصص الدم المعفّر هناك، لأطفالٍ بلا عدد، صاروا مقمّطين بأقمشةٍ بيضاء، ويبحثون عن أرضٍ مجوّفة ينامون فيها، فأنّى لك أن تعرِف. أطفالُ المقتلة التي ذاع أخيرا إن بايدن صار سئما من أخبارِها هم أقرانُ لؤي صبح الذي كان عمره 11 عاما وقت تلك الحرب، في بيت لاهيا، لمّا خرج مع أبيه من ملجأ "أونروا"، حيث أقاموا 15 يوما، ليتزوّدوا ببعض الطعام، بعد أن أعلن الجيشُ هُدنة ساعتيْن، ثم قصفهم بصاروخ، في أثنائها، فأصيب لؤي بشظيّةٍ أفقدته بصرَه، وشلّت يده اليمنى. كتب الشاعر قصيدةً مهداة له. إذ نقرأها الآن، لا نعلم ما إذا نجا الطفل الذي صار شابّا في العدوان الراهن: "...، وما بين ظلٍّ وظلٍّ/ رأيتُ العصافيرَ/ تهرُبُ من غارة الشمسِ/ مذعورةً من رصاص اللهيبِ/ رأيتُ المناقيرَ/ تسعينَ/ خمسينَ/ عشرينَ/ تُفلِتُ ألحانها..".
قصائدُ أخرى في "شهود غزّة" تُحيل إلى ما يتعلّق تعيينا بتلك الحرب، بأشخاصٍ من تفاصيلها، أقلّ قدرةً في العبور إلى لحظة ما بعد 7 أكتوبر. ولكن، ثمّة واحدةٌ، عنوانها "السيد الرئيس"، عن رئيسٍ بعينه، كان في تلك الحرب ومقيمٌ في غضون الحرب الجديدة، جعلها الشاعرُ على لسان الرئيس نفسه، أظنّ لسانَه ما زال يقولها، أوّلها "يخيّل لي أنني ما خُلقتُ لهذا جميعا../ وأني بلا سببٍ واضحٍ/ ههنا الآن../ أحرسُ عرش الظلام".

معن البياري
معن البياري
رئيس تحرير "العربي الجديد"، كاتب وصحفي من الأردن، مواليد 1965.