عندما يُطلب من الفلسطينيين الخروج من الكرة الأرضية

عندما يُطلب من الفلسطينيين الخروج من الكرة الأرضية

18 أكتوبر 2023
+ الخط -

لماذا يطلب الإسرائيليون القتلة من الفلسطينيين الخروج من بلادهم والتخلّي عنها، ولماذا يصمت حكّام العالم "المتحضّر" عن إدانة هذا المطلب الشرير الذي يعني سقوط منطق الحضارة الذي يتباهون به، وغياب مبدأ العدالة الذي يزعمون التمسّك به، وماذا سيقول التاريخ عن هذا الذي يحدث؟

أجابنا مرّة عن سؤال كهذا شاعر فلسطين الراحل محمود درويش، قال: "إن التاريخ لن يكون حكما عادلا، لأن التاريخ ليس قاضيا، التاريخ موظّف، وهو في خدمة الأشرار الذين يتسيّدون العالم ويحكمونه". وروى لنا بلسان الفلسطيني المقيم على أرضه، والقابض عليها كما القابض على الجمر، كيف أن "الثلاثي القاتل المدجّج بالسلاح: الأول (أميركا) أباد شعباً في الماضي، كما أباد شعباً وتربة في جنوب شرق آسيا، وفجّر علامة تحضّره الكبرى (القنبلة الذرية) في شوارع العالم، وهو يطالبني بالخروج من حلبة الإنسانية، ومن الكرة الأرضية، بزعم أنني إرهابي. والثاني (أوروبا) الذي ليس من الحكمة أن نذكّره بماضيه، لقد أحرق عشرات الملايين من البشر باسم الحضارة والتمدّن، والآن يتعانق القاتل والضحية وينجبان وليداً جديداً هو الثالث، فماذا ينتج من زواج الإرهاب إلا الإرهاب". يضيف درويش: "جاء الثالث (إسرائيل) المدجّج بالتوراة والسلاح، واقتلعني من جبالي وسهولي ودحرجني من الحضارة إلى الحضيض، هذا الثلاثي يطالبني بالخروج من الكرة الأرضية لأنني إرهابي، وماذا فعل العالم المتحضّر في ساعةٍ متأخّرة من الليل؟ ذهب إلى غرفة النوم ونام!".

يُعيد التاريخ نفسه عند كل منعطفٍ حادّ يقطع زمن الصراع العربي الإسرائيلي الذي تجاوز عقودا سبعة، منذ أقام الإسرائيليون كيانهم العنصري الاستيطاني على أرضٍ ليست لهم على قاعدة "وعد من لا يملك لمن لا يستحقّ"، وها هم اليوم يكشفون عن مطلبهم الشرير مرّة أخرى، إذ يفرضون على أهالي غزّة المنكوبين بحرب إبادة شاملة قتلت منهم، حتى كتابة هذه السطور، أزيد من 2600، وجرحت وأعاقت ما يقرب من عشرة آلاف، أن يختاروا بين أمرين: الخروج أو الموت، وهم يدركون أن الوقت قد حان لبعث الحياة في مشروع "الترانسفير" الذي أطلق في خمسينيات القرن الماضي، وقوبل بالرفض المطلق منذ البداية من الفلسطينيين وكذلك مصر والعرب، والغرض منه تصفية القضية الفلسطينية، ومحوها من الأجندة السياسية الإقليمية والدولية إلى الأبد.

يحاول الأميركيون اليوم، ومعهم الغربيون، ترويج فكرة إجلاء أهالي غزّة، وفتح معبر رفح لخروجهم إلى مصر، والزعم إن ذلك ينبغي أن يتحقّق لإنقاذهم وتوفير حياة إنسانية طبيعية لهم

وفي تلافيف المشروع العمل على توطين الفلسطينيين، كل الفلسطينيين، ولو على مراحل، في شبه جزيرة سيناء، أو في أرض أخرى قد تكون صحراء الأنبار التي تفصل بين العراق وسورية والأردن، والتي تغطّي مساحتها ثلث مساحة العراق، وهذا ما كانت طرحته أيضا صفقة القرن الميّتة تاريخيا، والتي سعت إلى إنشاء "وطن بديل" حلّا دائما للصراع العربي - الإسرائيلي الذي شغل العالم طويلا.

يحاول الأميركيون اليوم، ومعهم الغربيون، ترويج فكرة إجلاء أهالي غزّة، وفتح معبر رفح لخروجهم إلى مصر، والزعم إن ذلك ينبغي أن يتحقّق لإنقاذهم وتوفير حياة إنسانية طبيعية لهم، ويقال إن هذا جرى بحثه، مع جملة قضايا أخرى، مثل السعي إلى احتواء الموقف، وعدم اتساع دائرة الصراع، وإمكانية العودة إلى مسار التطبيع، في جولة وزير الخارجية الأميركي، أنتوني بلينكن، في المنطقة التي شملت إسرائيل وست دول عربية من بينها السعودية ومصر.

وقد تواترت تقارير صحافية عن موافقة أولية لبعض المسؤولين العرب على الأفكار الأميركية المطروحة، بخاصة أن تطبيقها قد يريح أعصابهم من صُداع الرأس الذي يسبّبه لهم استمرار صراخ الفلسطينيين في مواجهة غاصبي أرضهم، وإذا ما انجلى غبار الحرب المحتدمة بين الإسرائيليين والفلسطينيين، ولو بعد حين، فستكون ثمّة فرصةٌ لمناقشة أفكارٍ كهذه في الهواء الطلق، وربما يتم التوافق على "سيناريو" معيّن يضمن إنشاء "كانتون" تتوفر فيه مقوّمات الحياة لمن يوافق من أهالي غزّة على الهجرة، خطوة أولى، وهناك دول على استعدادٍ لضخّ الأموال الكفيلة بإنجاز ذلك، يطرح المحلّل الإسرائيلي القريب من مصادر القرار، إيدي كوهين، إمكانية قبول مصر بتوطين الفلسطينيين في شبه جزيرة سيناء مقابل حذف جميع ديونها الخارجية التي يقدّرها خبراء اقتصاديون بأزيد من 170 مليار دولار.

وبعد، هذه واحدة من المسائل الغائبة عنا اليوم، والتي ستُلقي بظلالها على جملة التحوّلات المتوقّعة في منطقة الشرق الأوسط بعد السابع من أكتوبر/ تشرين الأول 2023، وسوف تظلّ الأوضاع الماثلة في حالة سيولة ربما إلى زمن أطول.

583FA63D-7FE6-4F72-ACDD-59AE85C682EB
عبد اللطيف السعدون

كاتب عراقي، ماجستير علاقات دولية من جامعة كالجري – كندا، شغل وظائف إعلامية ودبلوماسية. رأس تحرير مجلة "المثقف العربي" وعمل مدرسا في كلية الاعلام، وشارك في مؤتمرات عربية ودولية. صدر من ترجمته كتاب "مذكرات أمريكيتين في مضارب شمر"