شعبوية قيس سعيّد إلى السقوط

شعبوية قيس سعيّد إلى السقوط

27 مارس 2022
+ الخط -

تُعرّف "الشعبوية" بأنّها خطاب سياسي موجّه إلى الطبقات الشعبية، قائم على انتقاد النظام ومسؤوليه والنخب، وهو خطاب لا يقوم على العقل ولا على الرؤية ولا على الحكمة، إنّما على المغامرة والصدمات والاصطدام ومواجهة الكل، وكأنّه تيار طهوري يمتلك الحقيقة، ويتفرّد بالصدق والنقاوة ويتهم من سواه بالفساد.

تدعو إلى استحضار هذا التعريف خطابات الرئيس التونسي قيس سعيّد "الشعبوية" التي تعكس توجّهه في الحكم، القائم على الاصطدام ومواجهة الكل، وتقسيم التونسيين أخياراً وأشراراً، وطنيين صادقين وخائنين عملاء منافقين، وشرفاء وفاسدين. وعلى الرغم من أنّ المقارنة بين ما يمكن فهمه من خطابات الرجل ورؤيته إلى السلطة والحكم لا تستقيم مع ما أنجزه وحققه من وعود خلال السنتين والنصف سنة من رئاسته، إلّا أنّ مجرد استمراره في إجراءاته منذ 25 يوليو/ تموز الماضي تدفع إلى طرح تساؤل مهم بشأن نقاط قوة هذا الرئيس ومآلاتها، في ظل ما تمر به تونس من أوضاع اقتصادية ومالية واجتماعية صعبة.

في محاولة لجرد أهم نقاط القوّة التي يستند عليها قيس سعيّد، فيما يمكن أن يطلق عليها "الشعبويّة السعيّدية" قياساً بـ "الشعبوية الترامبية"، يمكن الحديث عن أربعة عوامل أساسية كانت السبب الرئيس في استمرار قيس سعيّد في السلطة، على الرغم من كل "الإجراءات" التي اتخذها، ووصفها طيف واسع من التونسيين والباحثين والمختصين بـ "الانقلاب".

نقاط قوة قيس سعيّد سقطت أو آيلة للسقوط، وخصوصاً فيما يتعلّق بشعبيته وشعبويته في ظل ازدياد عدد معارضي أفكاره وتوجهاته

أولى هذه النقاط شعبيته غير المرتهنة إلى الأحزاب، والمدعومة بأكثر من ثلاثة ملايين ناخب، أوصلته إلى قصر قرطاج على حساب منافسه في الجولة الثانية من الانتخابات الرئاسية نبيل القروي رئيس حزب قلب تونس، الذي لم يتحصّل سوى على 27% من أصوات الناخبين مقابل 72.1% ذهبت إلى قيس سعيّد. الثانية تتمثل بخطابه الشعبوي الذي يقوم على نقد النظام القائم وكل ما يمثله، ودغدغ من خلاله مشاعر التونسيين بكلام جميل وشعارات زائفة، من قبيل "محاربة الفساد" و"سلطة الشعب"، استطاع من خلالها أن يجذب فئاتٍ واسعةً من الشعب التونسي كانت قد ملّت من الخطاب الدبلوماسي المتعارف عليه، خصوصا أنه بعيد عن الأحزاب التقليدية وحساباتها الضيقة، إلى جانب خطاباته العاطفية المركّزة على قيم العدل والمساواة وإحقاق الحق، والاستعمال الانتهازي للنص الديني، في محاولة لكسب المصداقية من خلال إدخال آيات قرآنية وأحاديث نبوية وأحداث تاريخية لشخصيات دينية معروفة في تلك الخطابات، في محاولة لإظهار نفسه شخصا متدينا صارما، الشيء الذي زاد من حشد فئات معينة من الشعب التونسي، يبهرها هذا الخطاب، وتتلهف لرؤية شخص بهذه الجرأة في القصر الرئاسي.

النقطة الثالثة، تشتت المعارضة التونسية وضعف أدائها وعجزها عن التنظيم والدخول في تحالفات قوية لمواجهة قرارات الرئيس وإجراءاته، إلى جانب حالة الانشقاق العميق التي تعتري كامل مكونات الساحة التونسية، وعلى الأصعدة والمستويات كافة، سواء في الشارع بين الأنصار والمعارضين، وبين أعضاء البرلمان، والأحزاب وداخل النقابات، وحتى داخل المنظومة القضائية التي شهدت أخيرا حل سعيّد المجلس الأعلى للقضاء، واستبداله بآخر مؤقت لا سند قانونيا ودستوريا له سوى مراسيم مؤقتة يصدرها سعيّد، مكّنته من احتكار كل السلطات، حتى صار الوحيد المنتج للأحداث، وكل ما يحدُث بعدها إنّما هو صدى ينبعث عن أنصاره، أو ردود فعل تصدر عن خصومه.

النقطة الرابعة، تتعلق بدعم المؤسستين، الأمنية والعسكرية، وبعض الأحزاب المناهضة لحركات الإسلام السياسي للرئيس في إجراءاته، إلى جانب مساندة دول عربية وإقليمية له، وغض طرف دولي عن إجراءاته.

ما يجري في تونس انتكاسة حقيقية للديمقراطية الناشئة

كانت هذه العوامل محورية بالنسبة لوصول قيس سعيّد إلى الحكم، واستمراره في حكمه، على الرغم من كل الأزمات والمشكلات والإجراءات التي جعلت منه "دكتاتوراً دستورياً". ومع ذلك، يدرك متتبع الوضع الحالي في تونس أنّ بعض نقاط القوة هذه قد سقطت أو آيلة للسقوط، وخصوصاً فيما يتعلّق بشعبيته وشعبويته في ظل ازدياد عدد معارضي أفكاره وتوجهاته، وتزايد حالة الاحتقان في الشارع الذي بدأت تحرّكاته تشهد كثافة ملحوظة، نتيجة سوء الأوضاع الاقتصادية والمالية والاجتماعية، والفشل في توفير الطمأنينة للتونسيين في غذائهم ومعاشهم نتيجة النقص الحاد في المواد الاستهلاكية الأساسية في الأسواق المحلية، وتدهور القدرة الشرائية، وزيادة نسبة البطالة وإغلاق آلاف المؤسسات الاقتصادية وعجز الدولة عن الإيفاء بالتزاماتها الداخلية والخارجية، إلى جانب تدهور الترقيم السيادي لتونس، وهي تقريباً الأسباب نفسها التي ثار عليها الشعب التونسي في 2011، وأدّت إلى تقليص عدد داعميه يوماً بعد يوم، وهذا ما عكسه ضعف الإقبال على الاستشارة الإلكترونية، والذي شكّل رسالة واضحة تعكس مزاج الشارع، وتترجم حالة اليأس من شعارات سعيّد ومشروعه ووعوده التي لم يتحقق منها سوى 6% حسب ما أكدته منظمة "أنا يقظ" المتخصصة في الرقابة غير الحكومية في تقرير نُشر لها في نوفمبر/ تشرين الثاني الماضي. يُضاف إلى ذلك "حرب الشقوق" والصراعات داخل القصر التي بدأت بالتوسّع، وخصوصاً بعد استقالة مديرة الديوان الرئاسي، نادية عكاشة، ومغادرتها البلاد هي وعائلتها، وما تبعها من تجاذبات بين أهم أعضاد الرئيس سعيّد.

في المحصلة، يمكن القول إنّ "الشعبوية السعيّدية"، ومن خلال ما أحدثته خلال السنوات القليلة الفائتة، أضرّت كثيراً بمكانة تونس داخلياً وخارجياً، وأدّت إلى تراجع ثقة قوى ونقابات كثيرة، وكذا الحاضنة الشعبية الأساسية المتمثّلة بالطبقة الفقيرة، فمشروع سعيّد لم يبقَ له من شروط البقاء سوى تشتت المعارضة التونسية وضعف أدائها وعجزها عن التنظيم وعن بناء جبهة سياسية واسعة تقف بوجه سعيّد وإجراءاته، ودعم المؤسستين الأمنية والعسكرية إلى جانب مساندة بعض الدول العربية المناهضة لثورات الربيع العربي، فما يجري في تونس انتكاسة حقيقية للديمقراطية الناشئة، والتي شكلت استثناءً وسط دول تغلب عليها السلطوية وحكم الاستبداد.