سمير الأدباء

سمير الأدباء

25 مايو 2023

(سعد يكن)

+ الخط -

لا أتحدّث عن ذلك السمير الباحث عن بقية ظلٍّ من شهرة في المجالسة، سواء في مقاهي بغداد القديمة، حيث المروءة والفقر والضحك وتبادل المخطوطات القديمة، ولا أتحدّث عن بقايا المتسكعين في نهايات المنتديات الأدبية في أواخر التسعينيات من القرن الماضي، حيث سيطرت السياسة على المشهد وكاد أن يموت الأدب لولا "جلكوز الجوائز من هنا وهناك"، وأصبح كوب الشاي لفقراء الأدب هو الوهم والصبر والمسامرة على كراسي المقاهي الفقيرة، بعدما غادر الحداثيون إلى المنافي بحثا عن جنّة خضراء، وتحوّل أغلب الكتّاب إلى مترجمين، وانتشرت فلوس ساويرس للمحكّمين والتابعين وتابع التابعين كالنار في الهشيم.

أبحث عن ذلك المضروب بالمسامرة، لا انتظارا لكونه يبحث عن مكانٍ ما في الأدب، ولا لكونه يداري قصة أو قصيدة في جيب معطفه وينتظر اللحظة المواتية، ولا أبحث عن ذلك "السنيّد الموجّه" من بقايا الأحزاب، بعدما تعفّنت وانتهت، وغالبا ينتهي به الحال كمراجع لغوي في بعض الصحف أو القنوات الفضائية لرجال الأعمال، أو معدّ لبعض البرامج الخفيفة هنا أو هناك، والفاشلون منهم بعدما يسوء بهم الحال، يتحوّل بعضٌ منهم إلى أشباه مخبرين كما كنّا نظنّ ذلك، أخطأنا أو أصبنا، ولا أبحث عن بقايا اللواءات، بعدما أحيلوا إلى المعاش، وبعيون نهمة لكتابة مقال هنا أو هناك، حتى وإن ظلّت خيوط وبقايا عملهم ممتدّة بكتابة التقارير كما كنا نتهامس عنهم سرّا، حتى وإن أجادوا المؤانسة والظّرف أحيانا، وكانت لهم عشيقاتٌ نحسدهم عليهن أو بعض صور قديمة مع شادية في بواكير حياتهم وهي تقف أمام كابينة بالإسكندرية، ولكن أتحدّث عن ذلك العاشق للأدب، ولا يأتيه ذلك الشعور أو الشجاعة بأن يقترب من القلم، ويظلّ على ذلك الأنس الطيب بالأدب والأدباء، من دون أن يبحث عن وجاهة، أي وجاهة ما، وكأنه ذلك السيد الهامشي، بالقرب من المسامرة، من دون أن يكون كذلك.

شخصيات مخاتلة وطيبة وتحبّ السمر وتدفع من دماء جيوبها لشراء الكتب والموسوعات وأسطوانات الموسيقى، وغالبا يكون لهم ذلك الباع الطويل في متابعة الموسيقى أو الفن التشكيلي من دون مباهاة أو طنطنة مع فراسة طيبة وابتعاد عن الصخب وكأنهم متصوّفة سقطوا إلى الأمكنة في غير موعدهم تماما.

أبحث عن ذلك السمير الوقور الذي لا يزعجك بمفاهيم السياسة المطروحة على الأرصفة، ويحدّثك بصوت هادئ عن صوت نعيمة سميح، أو طليقة المطرب محمد عبد المطلب، التي سافرت إلى العراق قديما، وأتقنت اللهجة العراقية كأهلها، وتزوّجت هناك ملحنا سمْحا، وكأنها شربت من طمي دجلة والفرات، أبحث عن ذلك السمير الطيّب للأدباء، والذي يدخل معرض الكتاب هادئا بتذكرةٍ مشتراةٍ مع الجمهور، ويخرج محمّلا بالكتب ولا ينتبه له أيٌّ من طواويس الأدب أو الشعراء، رغم أنه يقرأ الجميع في سماحة المحبّ ويعود إلى مطبعته أو عيادته القديمة في حي معروف، ويكلمك في أدبٍ عن روعة ترجمات سامي الدروبي أو ألحان محمود الشريف المنسيّة جدا. أحيانا تراه في مشربٍ يجلس هادئا مع جريدة أو كتاب، فيكتفي بإشارةٍ جميلةٍ وابتسامة مترعة باللطف والحنان. وفي خروجه يعيد عليك تلك الابتسامة مرّة أخرى، مع إشارة بسيطة بالوداع، وقد لا تراه إلا بعد سنواتٍ في الرضا والعذوبة نفسيهما، وكأن السنوات لا مرّت ولا كرّت ولا الحروب اشتعلت هنا أو هناك، وكأنه خرج توّا من "ألف ليلة وليلة" بعدما تجوّل سنواتٍ وحيدا في شوارع بغداد القديمة أو الهند أو البصرة، وكأن اسمه يشبه اسم عابد المرّي، ذلك الاسم الذي اخترعته اختراعا وجعلت منه ورّاقا، وجعلت منه صديقا "للمبرّد" أو "علي اللقاني" صاحب "الطبقات"، فهل كان اللقاني بالفعل هو "صاحب الطبقات"، وهل صادق المبرّد أحدا له عشق بمسامرة الأدباء؟ وهل الأدباء بالفعل لهم شفقةٌ ومودّة بمن يسامرهم؟ أم كل الناس عندهم بمثابة بطانةٍ لينةٍ فقط، كالقارئ أو الناشر أو جماهير معرض الكتاب أو بائع الجريدة ... إلخ.

هل انتهي ذلك السمير وشعر باليُتم في العالم فتوارى عن الدنيا مكتفيا بأفراحه بعيدا عما يحدُث، خصوصا أن الحروب اشتعلت في جنبات العالم، فاختار أن يمشي هادئا بجوار الحوائط، راضيا بقسمة الأيام وحلاوة الأدب.