ريشي سوناك في منزل تشرشل

ريشي سوناك في منزل تشرشل

27 أكتوبر 2022

ريشي سوناك يغادر مكتبه في 10 داوننغ ستريت في لندن (26/10/2022/Getty)

+ الخط -

"كان ريشي سوناك أسوأَ نادل؛ قَدّم وجبةَ دجاج لزبائن نباتيين". سخرت الصحافة البريطانية من وزير مالية ذلك الوقت عندما ظهر ممثِلا مصوَّرَا في يوليو/ تموز 2020 في أحد مطاعم لندن، كنادل ضمن الحملة الدعائية "تناوَلَ الطعامَ في الخارج لدعم الخطة Eat Out to Help Out Scheme". هي خطتُه المالية في بدايات أزمة كورونا. لم تبدأ المملكةُ المتحدة وقتها بفرض حظرٍ كامل، بل اكتفت بما سُميت "خطوات السلامة الست". حينئذ، انتقدتْ صحافةُ المعارضة الوزير سوناك لخرقه قاعدة عدم ارتداء الكمّامة.

فشلُه نادلا وإخفاقُه في الالتزام بمعايير التباعد الصحية لحقهما ارتياحٌ شعبي لنجاحه في ثنائية صعبة التحصيل، متمثلة بحماية كثيرين من خسارة وظائفهم إلى جانب الحيلولة دون انهيار أكثر الشركات. جاء الثمنُ مكلفا بتحمّل الدولة أعباءَ قروضٍ وفيرةٍ ساهمتْ مع عوامل أخرى في ظهور الاختناق الاقتصادي الراهن. وإذا كانت اختناقاتُ الحرب الأوكرانية والجائحة عامتي التأثير، فإن أزمة بريكست أضرّت المملكة وحدها. كان سوناك داعما، صوّتَ لصالح الخروج من الاتحاد الأوروبي، ودافعَ عنه، بل صوّت برلمانيا للمغادرة حتى من دون صفقة. إلا أن إصراره على ما سمّاههما سوناك الحرية والمرونة الاقتصاديتين لم يمنعه من الإقرار في مارس/ آذار الماضي بأنه سبَّبَ تراجعَ التجارة في بريطانيا.

تترك التناقضات بين الخطوات المنطقية والاندفاعات الشعبوية في شخصية رئيس الوزراء البريطاني الجديد أسئلة وسط أزمة صعبة، بدأت نخبة حزب المحافظين في النظر إلى الرجل على أنه المحاولة الأخيرة للتغلب عليها، فسوناك رجل أعمال ناجح، ويأتي من تخصّص دراسي يمسّ طبيعةَ الأزمة، كونه درس الاقتصاد إلى جانب الفلسفة والسياسة. لكن الدراسة لا تعني كلَ شيء في هذه التحدّيات. درست رئيسة الوزراء السابقة ليز تراس الاختصاصَ ذاتَه في جامعة أوكسفورد ولم يساعدْها ذلك على تخطّي 44 يوما في رئاسة الحكومة لتودع منصبها بسرعة غير مسبوقة. الأمر رهن بالمهارة والخبرة، فضلا عن الفرص الموضوعية. البحث في الخيارات المحدودة دفع غالبية نخبة المحافظين السياسية، أيْ نوّابَ الحزب، إلى سد طريق عودة بوريس جونسون لرئاسة الوزراء، والحيلولة دون إجراء انتخابات عامة مبكّرة ستطيحهم قطعا. لجأ المحافظون إلى خيار غير تقليدي، وهو رجلٌ يتحدر من أسرة هندية عاشت في شرقي القارة الأفريقية ثلاثة عقود، وقدِمتْ إلى بريطانيا في ستينيات القرن الماضي.

الاختلاف الجذري الأساسي اليوم ليس القضايا الأيديولوجيةَ والاجتماعية، بل الاقتصاد وطبيعة العلاقة مع الشركات الكبرى والخصخصة

كان سوناك خيارَ أكثرية نخبة المحافظين منذ البداية. حصل على أكثر أصوات نوّاب حزبه في اختيار رئيس الوزراء بعد استقالة جونسون، إلا أن قاعدة المحافظين الحزبية هي التي حسمت المعركة لصالح ليز تراس. تجاوُزُ الاعتبارات القائمة على العرق والخلفيات الدينية نخبوياً وفشلُ تجاوزها على مستوى القاعدة الشعبية يؤشّران إلى إشكاليةِ أن اليمين البريطاني محاصرٌ بتجمعاتٍ جماهيريةٍ حزبية تعاني من توجهاتٍ ذات طابع شعبويّ أو شعاراتيّ أو أيديولوجي. جنوحُ قاعدة المحافظين لتراس ضد سوناك ليس المثالَ الوحيد. هناك تصويتُها لصالح بريكست، رغم أن قيادة الحزب، ديفيد كاميرون، لم تكن مع القرار. هيمنت النزعة الغوغائية يومذاك أكثرَ من اعتماد المعايير المنطقية والخطوات المدروسة. تميل أكثرية قاعدةِ الحزب إلى الخيار الأيديولوجي. وفي النهاية، تأخذ العقائدُ والخلفياتُ الأمورَ إلى ثنائياتٍ حادّة من بينها اللون والقومية والدين… وعلى العكس، يبدو أن غالبية نخبة المحافظين السياسية تغادر تلك الثنائيات بحثا عن حلول عملية وعن طريق لإنهاء تخبط وارتجال وفوضى خنقت الحزب أخيرا.

قبل نحو شهرين، هاجمت رئيسةُ الوزراء سابقا تيريزا ماي حزبَ العمال بأنه لم يقدّم امرأة لقيادته، ولا شخصا من جذور غير إنكليزية. صدقت في ذلك، فآخر انتخابات للعمّال تنافست سيدة مع رئيسه الحالي كير ستارمر، وهُزمت. والآن، تأتي في سلّم أهم الشخصيات فيه وزيرةُ مالية حكومة الظل رَيتشيل ريفْز، وهي تبدو أكثرَ مهارةً وقدرةً على العمل من زعيمها نفسه، إلا أنها تبقى ثانية. هناك بالطبع خللٌ لدى العمّال. بعض أسبابه في ما يبدو خوفُه من أن يؤدّي اللجوءُ إلى خياراتٍ غير تقليدية إلى تعزيز اتهامه بأنه حزبٌ لا يتوافق مع التقاليد السياسية الإنكليزية. إذ يعاني تاريخ العمّال من اتهاماتٍ وجهها خصومه على مر العقود الماضية بأنه معادٍ للنظام الملكي، وبلغت عهدَ هارولد ويلسون، سبعينيات القرن الماضي، حدَّ القولِ إنه عميل للمخابرات السوفييتية.

نسب عالية من المصوّتين للمغادرة من الاتحاد الأوروبي انتموا إلى جالياتٍ لم تشأ رؤية أجانب في البلاد مع أنها نفسَها من خلفيات مهاجرة

رسم نجاحُ نخبةِ المحافظين في تجاوز عقبة الهوية القومية صورةً لم يعد الرجل الأبيض فيها المؤهل الوحيد للقيادة. ومع انتخاب تاتشر، أفلَح مبكّرا في تقديم صورة المرأة القائدة، وليس الرجل. هذا كسْرٌ للقواعد في عالم عنصري وذكوري. وصولُ رجلٍ من جذورٍ غير بريطانية إلى رئاسة حكومة بلادٍ كانت مستعمِرةً مساحاتٍ شاسعةً من الأرض لا يقلّ أهمية عن صعود رجل من أب أفريقي إلى رئاسة الولايات المتحدة. بطبيعة الحال، هناك تجمّعات بريطانية عنصرية تمتعض. وتشعر بالاستغراب واللاقبول جماعاتٌ شرق أوسطية وغيرُها من التجمّعات العنصريةِ أو المغلقةِ على نفسها في إطار الحساسياتِ المتبادلةِ بين الجاليات ذات الأصول غير البريطانية.

ليس هذا الاستغراب مجردَ مشاعر نفسية، هو سلوك. مثلا، تصويت "بريكست" حين لعبت أكاذيبُ العنصرية دورا حاسما فيه، كان المتحدرون من جذور غيرِ بريطانية أصواتا ذات أثر بالغ فيه. نسب عالية من المصوّتين للمغادرة انتموا إلى جالياتٍ لم تشأ رؤية أجانب في البلاد مع أنها نفسَها من خلفيات مهاجرة. بمعنى أنها اتّخذت قرارها بعنصرية شعور "أجنبي" لا يريد أجنبيا جديدا في البلاد ينافسه على المواطنة المكتسبة. هنا يأتي اختيارُ أغلبية النوّاب المحافظين رسالةً دالّة في مواجهة ذات ثلاثة اتجاهات: اتجاه قواعد حزبية تعاني من الشعبوية، ومن جهة أخرى، بريطانيين آخرين عالقين في ثنائيات العنصرية، ومن جهة ثالثة وعيِ الجماعات القادمة من خلفيات متعدّدة، وتشتكي من دور ضحية التمييز في الوقت نفسه الذي تمارس فيه العنصرية على الآخرين.

اختيار حزب يميني يعدّ أعرق الأحزاب الأوروبية شخصا من أصول آسيوية زعيما له ورئيس حكومة البلاد، تغيير في التعبير الأيديولوجي عن اليمين نفسه. فعلى عكس الولايات المتحدة، حيث يعاني اليمين من تفريقٍ صريح ضد المتحدرين من أصولٍ غير بيضاء، يقف نظيرُه البريطاني مناقضا. من السهل أن يجد المرء خلفياتٍ متنوعةٍ في نخب حزب المحافظين. هناك مسيحيون من مذاهب شتّى ويهود ولادينيون وملحدون وهندوس ومسلمون وسيخ… من أعراق وألوان وقوميات مختلفة في مؤشّر إلى طريقة تفكير مغايرة للتنميط المعهود، فهو في ذروة أزمته وتخبّطه وسوء الإدارة وفقدان الثقة مستمرّ في تجاوز عقدتي الذكورية والعنصرية. وليس عنصريةً بالطبع أن يُتوقع من أي سياسي تغليبُ انتمائه للبلاد على هويته الخاصة عندما تتصارع الأولويات.

رسم نجاحُ نخبةِ المحافظين في تجاوز عقبة الهوية القومية صورةً لم يعد الرجل الأبيض فيها المؤهل الوحيد للقيادة

هذا الموقفُ المغاير في خيارات اليمين وانتخابُ شخصيةٍ مثل سوناك منازلةٌ صريحة مع التمييز على أساس الهوية في البلاد. لكنها ليست المسارَ الوحيد المتوفّر لمواجهة التمييز على الهوية، إذ تسهل على المرء ملاحظةُ الجهود المبذولة قانونيا وإعلاميا وسياسيا لتقليص أنماط العنصرية الهوياتية، في مقابل ذلك الجهودُ أقلّ بكثير، حين يتعلق الأمر بالطبقية الاقتصادية، وهي المشكلة العقدية الرئيسية لدى اليمين، وهي اختلافه الرئيس عن اليسار. يصحّ القول إن النظر إلى قضايا العرق أو الجندر صارت متقاربة في مواقف النخب السياسية لليسار واليمين، والفوارق تضيق بينهما من ناحية مواقفهما من الموضوعات الاجتماعية والأيديولوجية، مثل الإجهاض والمثلية وتغيير الجنس والعنف الأسري وأمثالها. ما يتكبّده المحافظون على مستوى أيديولوجي في الوقت الراهن هو الطبقية التي جعلت الحزب بعيدا عن الشرائح المتوسّطة الدخل فضلا عن المحدود دخلها، وساهمتْ في تراجع شعبيّته تراجعا غير مسبوقٍ على مدى عقود. وها هو متورّط في أزمة ناتجة عن التخبّط، ليقدّم من جديد اقتصادا منهكا سيورّثه، إن فشل سوناك، إلى العمّال في تكرار للتاريخ آخر، عندما ورّث اليمين لليسار أزماتٍ اقتصاديةً كان على الأخير معالجتُها. بمعنى أن الاختلاف الجذري الأساسي اليوم ليس القضايا الأيديولوجيةَ والاجتماعية، بل الاقتصاد وطبيعة العلاقة مع الشركات الكبرى والخصخصة… ورغم أن رئيس الوزراء الأسبق توني بلير ضيّق الاختلافات الناجمة عن العقيدة الاقتصادية، إلا أن السنوات الأخيرة دفعت المحافظين إلى وضعٍ لا يُحسَدون عليه في ظل اتهاماتٍ بالكذب وتقديم المصالح الحزبية والذاتية والعلاقات الاقتصادية على حساب الطبقات ذات الدخل المحدود.

وتبقى إشكاليةُ أن النخب، مهما استطاعت تجاوزَ الحساسيات والتمييز، مختارَة من قواعدها الشعبية، وهي قواعد لم تفارق بعدُ فهمَها الارتجاليَّ والشعبوي، وستظلّ قادرةً على تغيير الدفة في اتجاهاتٍ غير سليمة، عندما تمتلك الفرصة، كما فعلتْ مرّتين حين انتخبت بوريس جونسون بعد استقالة تيريزا ماي، وليز تراس بعد استقالة جونسون. وما لم تلعب النخبُ غيرُ "الجونسنية" دورَها الحاسم في إحداث تحوّل كبير في وعي قواعدها ستُعاد الكرّة في كل مرة إلى حيث كانت.

وسواء أعيدَت الكَرَّة أم قِيْدت الدّفة إلى الأمام، أن يرأسَ رجلٌ من أصول آسيوية هندية المنزلَ رقم عشرة في "داونينغ ستريت"، منزلَ تشرشل الذي ناهض استقلال الهند، هو تطوّرٌ يُحسب لبريطانيا وليس عليها. ففضلا عن القيمة الأخلاقية للخُطى بعيدا عن العنصرية، يُعد هذا التطور دلالةً على النشاط الحضاري الدؤوب والمفقود لدى بيئات الريع الفكري والعقدي العالقة في سردياتها القديمة والخاملة في وَحْلِ جهلِها النشط وجهلِ أنها جاهلة.

عمار السواد
عمار السواد
عمار السواد
إعلامي وكاتب عراقي، يعمل في التلفزيون العربي، ويقيم في لندن
عمار السواد