"ذات" قبل "25 يناير"

17 يناير 2016

نيللي كريم وباسم سمرة في مسلسل "ذات"

+ الخط -
يعرض تلفزيون "العربي"، منذ أيام، مسلسل "ذات" الذي شوهد عرضه الأول في موسم رمضان 2014، وهو من أهم منجزات الدراما المصرية، في الإخراج والأداء والإيقاع والمونتاج، وإن شابَه تراجع في مستواه العام، في حلقاته الأخيرة التي تولى إخراجها خيري بشارة، بعد كاملة أبو ذكري. والمثير في المسلسل أن مساره الزمني من ثورة يوليو 1952 إلى ثورة يناير 2011، في اختلافٍ عن رواية صنع الله إبراهيم التي قام عليها المسلسل، والتي تقع تفاصيلها بين 1974 و1986، (صدرت في 1992)، كما أن جملة من اختلافات أخرى عن الرواية، أحدثتها كاتبة السيناريو المتقن، مريم نعوم، منها أن البطلة في المسلسل تعمل في مونتاج الأخبار في التلفزيون، فيما تعمل في الرواية في أرشيف جريدة. وفي العملين، البصري والمكتوب، يُسوّغ هذا الأمر إحالاتٍ وفيرةً إلى وثائق إخبارية عن وقائع مصرية وعربية عديدة، في تقنيةٍ جذّابةٍ حضرت خياراً بنائياً وجمالياً عند صنع الله إبراهيم، قبل "ذات" في "بيروت.. بيروت" وبعدها في "شرف". 

وكان تحدياً خاصاً إنجاز عمل درامي من رواية "ذات"، فليس فيها تأزماتٌ دراميةٌ كبرى، ولا تتوفر على اشتغالٍ ظاهر على عواطف الشخصيات ودواخلها، وليس ثمة اعتناء بقضايا وأفكار كبرى، ولا يحضر قصٌّ فيها يجذب أهل الدراما. ولكنْ، تمكّن المسلسل من تيسير كثيرٍ من هذا كله، وإحداث تشويقٍ عام تجاه مسارٍ متتابعٍ من تفاصيل يوميةٍ معيشيةٍ في حياة عائلةٍ متوسطة، تقيم في شقةٍ عادية. وكان توالي هذا كله، من خلال مجرى تقليدي لحياة البطلة المركزية، طفولتها ودراستها الجامعية وزواجها ووظيفتها الرتيبة وإنجابها بنتيها وولدها، ومغالبتها مشكلات المواطن المصري المتنوعة، في حياةٍ تزدحم فيها التفاصيل المتعبة. وفي هذه الأثناء، كان الحال السياسي العام في مصر، والفساد الوفير، والنفوذ الفادح للسلطة في مختلف مستوياتها، وكذا الغلاء وصعود التديّن والمحافظة في المجتمع، وظواهر ومتغيرات أخرى، كانت تستجدّ في الحياة المصرية، ولا سيما في زمن حسني مبارك، بعد عبور واسع في عهدي جمال عبد الناصر وأنور السادات.
من أجمل حلقات المسلسل واحدةٌ تعلقت بتحسين ذات الحمّام في شقتها، بعد معاناةٍ لم ينفع في حلها استدعاء سبّاكٍ تلو آخر، فكان تجديد ذات له، وشراؤها ما يلزم لذلك، من نقودٍ جمعتها في اشتراكها في جمعيةٍ مع زميلاتها في الوظيفة، ومن بيعها ألبسة أعدتها بواسطة ماكينة خياطة لديها. ربما كانت تلك الحلقة التي أجاد الحوار والسيناريو والإخراج إجادة بديعة فيها أهم حلقات هذا المسلسل الرائق، والذي في وسعك أن تلتقط فيه الإيقاع السياسي العام ومختلف المستجدّات والانعطافات في مصر. وفي الأثناء، كانت ذات، طوال المسلسل، حذرةً من السياسة والمتعاطين بها، وإن انجذبت في الجامعة إلى زميلها اليساري والناشط الذي تزوج لاحقاً من صديقتها. وإذ لا قناعات سياسية واضحة لديها تجاه أي شيء، إلا أنها تُبدي، أحياناً، حنيناً إلى عبد الناصر، تمثلاً بوالدها فقط، ويحدُث أن تُظهر سخطاً عابراً على أحوالٍ عامة، من دون وجهة نظرٍ تدافع عنها. أما زوجها البالغ التقليدية في حياته، موظف البنك الذي يحوز فرصة عمل في الكويت، سنوات قليلة، تنتهي مع غزو 1990، فإنه يقيم على إعجابٍ عفوي بالسادات وأميركا، وشيء من النفور من عبد الناصر، من دون أن يذهب، في ذلك كله، إلى انضواءٍ في نشاط سياسي من أي نوع.
عادية شخصيات مسلسل "ذات"، وإتقانه في الإحالةِ إلى إيقاعاتٍ سياسيةٍ واجتماعيةٍ مصريةٍ عامة، برهافةٍ حاذقةٍ في التصوير، وفي أداء الممثلين الباهر، نيللي كريم وباسم سمرة (وغيرهما)، مع الأحلام المتواضعة لأبطاله، والسلاسة الشائقة في التعبير عن إخفاقاتهم وتوتراتهم وخيباتهم، وقد تتابع ذلك كله وغيره وصولاً إلى ثورة 25 يناير التي يُختتم المسلسل بمشاركة ذات في إحدى مظاهراتها، وفي هذا رسالةٌ كاشفةُ، ربما يحسن استعادتُها، وذكرى هذه الثورة يقترب.
دلالات
معن البياري
معن البياري
رئيس تحرير "العربي الجديد"، كاتب وصحفي من الأردن، مواليد 1965.