حين يحلّ الخريف

حين يحلّ الخريف

04 ديسمبر 2023

(جاكسون بولوك)

+ الخط -

مروّع أن تبلغ خريف العمر خالي الوفاض إلا من محمولات ذاتك من الحزن والمرارة وخيبة الأمل، فمن توهّمتهم أصدقاء عُمر سوف يسندون روحَك إذا ما حلّ بها الوهن، ليسوا أكثر من معارف تصادف وجودهم في حياتك بحكم المشتركات، وتندم، من عمق خيبتك، أنك صرفت، فيما مضى، الكثير من طاقتك، على الاكتراث بهمومهم والوقوف بجانبهم في الملمّات، ليتبيّن لك، فيما بعد، أن ذلك كله كان بلا طائل، محض هباءٍ وهدرٍ للزمن الذي ظننتَ، في لحظة زهو زائفة، أنه حليفك الذي لن يخذُلك. يحدُث ذلك وأنت في عزّ الصبا، قويّا مقداما مغامرا مقبلا على الحياة بكل الشراهة الممكنة، غير عابئ إلا باقتناص الفرح وتحقيق منجزاتٍ يخيّل إليك أنها ذات أهمية، لتكتشف أن ذلك باطل الأباطيل، وأنك صرت تشبه ذلك الجار الكهل الفضولي الذي كان يجلس طوال النهار على كرسيٍّ من القش بلا مسند أمام بقالة الحي، متحرّشا بالمارّة من الجيران المستعجلين، توقا منه إلى تواصل لحظي من خلال فتح أحاديث عابرة عن الطقس وارتفاع الأسعار ومستجدّات السياسة وأخبار العائلة. 
كنتَ تمرّ من جانبه مسرعا، مدّعيا الانهماك، كي لا تضطر للاستماع للمرّة المليون إلى أخبار ابنه المقيم في أميركا والنجاحات الكبيرة التي يحققها، وكي لا تتظاهر أنك تصدّق ما يدّعيه أن الولد يلحّ عليه للسفر إليه والإقامة عنده في بيته الكبير المطلّ على المحيط، لأنك تعلم جيدا أنه يكذب، فالولد يعمل في محطّة وقود، ولا يتواصل مع والده إلا فيما ندر. يدرك الجميع أنه كان يعرف ذلك، لكنهم، على النقيض منك، كانوا يسايرون الكهل الوحيد ببضع كلمات مجاملة، ويمضون في طريقهم، فيما تستمرّ في تحاشيه، رغم نظراته المعاتبة، وكلماته التي تنطوي على تأنيبٍ خفي. 
لم تحزن حين سمعتَ نبأ وفاته، بل شعرت بشيء من الارتياح الآثم، وكأن همّا كبيرا انزاح عن ظهرك. الآن وقد تمكّن الخريف منك وانفضّ الجميع من حولك، بتّ تُدرك كم كان الرجل وحيدا ومخذولا ومتعطّشا للرفقة، ينتابك إحساسك بالندم، وأنت تواجه نفسك كل صباح، حزينا تائها أمام نهار طويل لا ينطوي على شيء، مجرّد ساعات ثقيلة تمضي عبثا، وأنت تتفرّج على نفسك، عاجز عن مسامحتها على ما بدر منك من حماقاتٍ ذات عمر طائش أفنيته في الفراغ. بذلت الكثير من أجل من لا يستحقّ، لتكتشف أن رصيدك من الصحبة اقترب كثيرا من الصفر. ذهب بعض من تحبّهم بدون رجعة، طواهم موت غير رحيم. وانهمك آخرون في مشاغل الحياة التي لم يعد فيها متسع لك، فالوفاء ليس من شيمهم، كما تبيّن لك بعد الأوان بكثير. 
لعلك تحوّلتَ من رجل مرح متّقد الذكاء سريع البديهة، مليء بالمفاجآت، إلى كهل كئيب دائم الشكوى والتذمّر، فابتعد الجميع عنك، خشية انتقال العدوى إليهم. كل شيء جائز، فالغدر طبيعة ثانية في البشر. عليك أن تتقبل نفسك اللوّامة كما هي، وربما آن الأوان كي تعقد مصالحة دائمة معها. عليك أن تغفر لها انسياقها واندفاعها وتهوّرها وغباءها، في أحيان كثيرة. وتتيقّن أنك لن تغيّر شيئا مما مضى. بهذه المحصلة، عليك أن تواجه ما تبقّى من عمرك، كي تصبح جديرا بسن الحكمة التي يتحدّثون عنها. وتأكّد أنك لستَ وحيدا في هذا الاختبار الأخير. سوف يعبر الكل هذه التجربة وسينتهي وحيدا. ولن يتسنّى لك أن تخوضها وأنت ملتفتٌ نحو الوراء. عليك أن تخلف هذا الوراء خلفك تماما، كي تبلغ السكينة والرضا والقبول بشرط الحياة، وأن تخلق معنى ما من ذلك، وإلا لن يكون أمامك سوى أن تجر مقعدا من القشّ، وتجلس أمام محل البقالة ذاته، متحرّشا بالمارّة من الجيران المستعجلين، مدّعي الانهماك، غير المكترثين بحكاياتك المكرّرة المثيرة للملل بالضرورة!

AD06A645-8A0A-4B42-9292-5FC44B5D51C6
بسمة النسور

كاتبة أردنية، تحمل الليسانس في الحقوق، صدر لها ست مجموعات قصصية، وكتبت نصين مسرحيين. تكتب في الصحافة العربية منذ 1990، وتشغل موقع رئيسة تحرير مجلة "تايكي" المتخصصة بالإبداع النسوي.