حين تصبح القضية ذريعة لقتل الشعوب

حين تصبح القضية ذريعة لقتل الشعوب

23 ديسمبر 2023
+ الخط -

وسط نخبةٍ من خيرة مزاودي القُطر العربي السوري وانتهازييه من كبار المناضلين البعثيين، أطلّ (الرفيق) بشّار الأسد، الأمين العام لحزب البعث العربي الاشتراكي (الحاكم)، في كلمة طويلة مرتجلة، كعادته، في معظمها، وهي الأولى له بعد بدء عملية طوفان الأقصى وما تلاها من حربٍ على غزّة وقطاعها؛ تحدّث خلالها عن الأوضاع التنظيمية للحزب، منبّها "الرفاق" إلى ضرورة الابتعاد عن الرومانسية في الحديث عن الانتخابات الحزبية المقبلة، مثل الحديث عن المال السياسي والمحسوبيات والفساد في الانتخابات، والتي تحتاج، برأيه، أولا، إلى وعي شعبي غير متوفّر حاليا لدى جماهير البعثيين السوريين، الذين بدأت تظهر وسطهم أصواتٌ مغرّرٌ بها توجّه أسئلة إلى الدولة عما فعلته للمواطن بعد الحرب، بينما واجب الدولة سؤاله هو (المواطن) عما فعله للدولة بعد الحرب، في أكثر أحاديث بشّار الأسد وضوحا عن رأيه بشعبه وببيئته التي دفعت أثمانا باهظة خلال العقد الماضي، فهو يرى أن هؤلاء، ناقدي الفساد والأوضاع المعيشية المزرية، لم يقدّموا سوى القليل للدولة التي لم ترضخ، وحافظت على شخصه رئيسا أبديا لعموم السوريين في الداخل السوري وفي الخارج (أليس هذا انتصارا عظيما؟)، ما دام المجتمع الدولي والعربي، على وجه الخصوص، يعيد تدويره ويعيد وجوده في الاجتماعات الرسمية، ولا يعترف إلا بالوثائق الرسمية الصادرة عن مؤسّساته. وتلك هي القضية السورية الأساسية التي استطاع بشّار الأسد الانتصار فيها. 
والحال، أخذ الحديث عن القضية وقتا طويلا من الرفيق بشّار الأسد الذي استفاض بالارتجال والشرح، كأي أستاذ مدرسة يرى أن تلاميذه الذين يجلسون أمامه مبهورون، هم مجموعة من الأغبياء الذين يحتاجون إلى مزيد من الشرح لفهم الفكرة. والأستذة والاستعلاء على من يوجّه إليهم الحديث من صفات بشّار الأسد، أكانوا رؤساء أو ملوكاً أو أمراء، كما كان يفعل في اجتماعات جامعة الدول العربية، أو من مؤيديه السوريين الذين يتفاخرون بقدرته على اللفّ والدوران حول الحقائق، من دون أن يخامرهم قليلٌ من الشك بعبقريته.
تحدّث بشّار الأسد إذاً عن القضية في معرض حديثه عن حدث غزّة، معتبرا أن ما يهمّ في كل الصراعات هو الحفاظ على القضية "بغض النظر عن نتائج الحرب، دمّرت غزة، هُجّر الشعب الفلسطيني، أبيد الشعب الفلسطيني، هنالك حقائق ظهرت وهذه الحقائق هي دروس مستفادة بالنسبة لنا، يجب أن نفكّر فيها ونتعلمها وتبقى نصب أعيننا، لأنها تتقاطع مع ما عاشته سورية ومع ما يمكن أن تعيشه دول أخرى". هكذا يؤكّد الرفيق المناضل أن تدمير المدن وتهجير الشعب وإبادته لا تعني شيئا أمام عظمة القضية وإظهار الحقائق؛ والحقيقة الظاهرية التي يتذرّع بها الرفيق المناضل لتمرير القتل والتهجير والتدمير بوصفها أثمانا لا تعني شيئا، هي أسطورة العدو الصهيوني، لكن ذلك ليس سوى تمرير لتبرير ما فعله بسورية وبشعبها، فهو فعل ذلك كله حفاظا علي القضية؛ والقضية السورية هي "صمود الدولة" كما يقول دائما، والدولة السورية، كما يعرف الجميع، هو ونظامه. أما الحقيقة السورية التي ظهرت فهي "خيانة قسم من السوريين"، والخيانة هنا هي الثورة ضدّه والمطالبة برحيله، مؤكّدا أن ما يجب أن يحدث في الثورات، إن عادت في أي بلد عربين هو التدمير والقتل والتهجير. 
هكذا يحاول الرفيق المناضل استغلال الحرب الإسرائيلية على غزّة لتبرير ما فعله بسورية، ومشبّها ما يحدُث في غزّة بما حدث في سورية. وفي الحقيقة، هو لا يبالغ هنا، فما فعله هو ونظامه بسورية والسوريين، لا يفعله سوى المحتلون والمستعمرون. لا يمكن لأولاد البلد أن يفعلوا ذلك ببلدانهم وبشعوبهم، ينبغي أن يكون القاتل والمدمّر والمهجّر محتلا؛ وهذه هي الحقيقة الوحيدة التي يمكن استخلاصها من حديثه أمام رعيّته من البعثيين، بعد أن نسي أن يعرّف لهم مفردة القضية التي حافظ النظام السوري عليها. فإن كان يعني القضية الفلسطينية، ففرع فلسطين الأمني وسط دمشق يشهد بذلك، وكذلك حفرة الموت في مخيم اليرموك، وإن كان يقصد بها القضية السورية، فدمار سورية وملايين المهجّرين والقتلى والمفقودين وبقاؤه، رغم ذلك كله، على رأس الحكم وإعادة المجتمع الدولي تدويره، أيضا تشهد على حفاظه على القضية السورية. 

BF005AFF-4225-4575-9176-194535668DAC
رشا عمران

شاعرة وكاتبة سورية، أصدرت 5 مجموعات شعرية ومجموعة مترجمة إلى اللغة السويدية، وأصدرت أنطولوجيا الشعر السوري من 1980 إلى عام 2008. تكتب مقالات رأي في الصحافة العربية.