حاجة منطقتنا إلى قطيعةٍ مع تفكير الصندوق

حاجة منطقتنا إلى قطيعةٍ مع تفكير الصندوق

03 أكتوبر 2023
+ الخط -

تعيش منطقتنا منذ مائة عام تقريباً، منذ ما بعد الحرب العالمية الأولى 1914-1918، أجواء الحذر والتوجّس والتحسّب، بل ظروف الحروب والنزاعات والصراعات التي هيمنت على العلاقات بين القوى الإقليمية الكبرى، وألزمت الدول الصغرى بالاصطفاف لصالح هذا المحور أو ذاك.
وليست هذه الوضعية جديدة على هذه المنطقة التي عاشت باستمرار منذ أقدم العصور حالة عدم استقرار نتيجة الحروب التي كانت بين القوى الإقليمية الكبرى في كل مرحلة. ويُشار هنا، على سبيل المثال، إلى الحروب التي كانت بين المصريين والحثيين على أرضٍ سورية، أو تلك التي كانت بين المصريين والقوى المهيمنة في بلاد الرافدين، أو التي كانت بين الفرس واليونان، حتى ترسّخت في الأذهان فكرة حاجة كل دولة، أو بكلام أدق، حاجة كل حكم، إلى وجود عدو خارجي حقيقي أو متخيّل، وذلك لشرعنة الوجود، وإسباغ هالة من القداسة على الدور الذي يقوم به هذا الحكم أو ذاك، لصدّ المخاطر الخارجية والداخلية أو مواجهتهما.
وغالباً ما اتخذت الأنظمة العربية الجمهورية العسكرية من ورقة مواجهة المخاطر الإمبريالية الصهيونية ذريعة لتسويغ شرعيتها، إلى جانب إصرارها على الربط بين معارضتها، ولا سيما الإسلاموية منها، وتلك القوى حجّة لتعزيز شرعية دورها ووظيفتها على المستويين الخارجي والداخلي. وبهذا المعنى، كان وجود إسرائيل بالنسبة لهذه الأنظمة نعمة لا نقمة، كما ادّعت وتدّعي. كما هو الحال مع ادّعاءاتها بخصوص محاربة الإرهاب.
لم تكن الدول العربية، الملكية والأميرية المحافظة، في حاجة إلى مثل هذه الشرعنة، وإنما استندت إلى آليات الانتقال المتوافق عليها ضمن مجتمعاتها الأهلية. وما ساعدها أكثر تمثل في ثرواتها الطبيعية الضخمة قياساً إلى حجمها السكاني، إذ تمكّنت من تأمين الحاجات الأساسية للناس، ولا سيما تلك الخاصة بالتعليم والسكن والصحة والعمل، وغير ذلك من الخدمات الأساسية. واستطاعت، بفضل توافقها مع بيئاتها المجتمعية، واعتدالها السياسي وتحالفاتها الدولية، المحافظة على استقرارها الداخلي، وساهمت، إلى حد كبير، في الاستقرار الإقليمي، رغم الحروب التي كانت تنشب من حين إلى آخر بين إسرائيل ودول الطوق العربية؛ ويُشار هنا إلى حربي 1967 و1973، بالإضافة إلى حرب الاستنزاف بين مصر وإسرائيل 1967-1970 والمواجهة التي كانت بين الأردن ومنظمة التحرير الفلسطينية عام 1970، والحرب الكبرى التي شنّتها إسرائيل لاحقاً عام 1982على لبنان بعد انتقال المنظمة إلى هناك، بناء على توافق الدول العربية، وقد أدّت تلك الحرب إلى الاحتلال الإسرائيلي لبيروت وإرغام المنظمّة على الخروج من لبنان باتجاه تونس.

بعد وفاة حافظ الأسد، وفي عهد ابنه بشّار، وارث الجمهورية، ازداد التدخّل الإيراني في سورية ولبنان والعراق

غير أن أوضاع المنطقة ازدادت توتراً بعد الانقلاب الذي حصل في إيران 1979، والانتقال إلى "الجمهورية الإسلامية" التي اعتمدت نهج "تصدير الثورة" عبر استغلال المظلوميتين الشيعية والفلسطينية، بغية التمدّد في المنطقة، والتدخل في شؤون دولها ومجتمعاتها، وذلك للتغطية على سلبياتها في الداخل الإيراني الذي كان، وما زال، يعاني من مظلوميات المكونات المجتمعية الإيرانية، القومية منها والدينية والمذهبية. ويُشار هنا على سبيل المثال إلى الآذريين والكرد، اللور والبلوش والعرب والتركمان والأرمن...؛ إلى جانب الأديان والمذاهب المختلفة، مثل المسيحية واليهودية والسنة والبهائية والزردشتية. 
وجاءت التطوّرات التي شهدتها المنطقة بعد هجوم القاعدة على برجي مركز التجارة العالمي في نيويورك في 11 سبتمبر/ أيلول 2011 لمصلحة النظام الإيراني. إذ وفرّ إسقاط نظام طالبان في أفغانستان، ثم إسقاط نظام عدوه اللدود صدّام حسين في العراق، فرصة ذهبية  للنظام المعني هنا للتمدّد في العراق ولبنان وسورية؛ هذا مع أهمية الإشارة هنا إلى أن التمدّد في لبنان، وحتى سورية، كان قد بدأ في عهد حافظ الأسد؛ ولكن الأخير كان خبيراً في المحافظة على لعبة التوازنات الإقليمية، مع معرفته المسبقة بحاجته إلى سندٍ إقليمي لحماية نظامه الطائفي من مخاطر أو ردّات فعلٍ غير متوقعة، خصوصا بعد المعارك الشرسة بينه وبين الإخوان المسلمين في ثمانينيات القرن المنصرم، واعتماده اسلوب الحرب المفتوحة معهم عبر تجريم الانتماء السياسي إليهم، والحكم بإعدام كل من يُدان بمثل هذا الانتماء.
وبعد وفاة حافظ الأسد، وفي عهد ابنه بشّار، وارث الجمهورية، ازداد التدخّل الإيراني في سورية ولبنان والعراق؛ وما عزّزه تهاوي الدولة العراقية بعد سقوط نظام صدّام حسين، وذلك لأسباب مختلفة، منها الحرب العراقية الإيرانية، واحتلال الكويت، والتوجّهات والممارسات الأميركية، وما نجم عن ذلك من خلخلة كبرى في العلاقات الإقليمية؛ وهي الخلخلة التي أسفرت عن تداعياتٍ ما زالت شعوب المنطقة تعاني منها، خصوصا في أجواء الربيع العربي، والتدخلات الإقليمية والدولية التي تمّت، وما زالت مستمرّة، في شؤون دول المنطقة ومجتعماتها. ويُشار هنا بصورة خاصة إلى سورية والعراق وليبيا ولبنان والسودان وتونس، هذا مع وجود مشكلات كبرى تعاني منها الأنظمة الجمهورية العربية العسكرية الأخرى. وضمن هذا السياق، لم يعد سرّاً أن الاستقرار المنشود على مستوى كل دولة بات مرتبطاً بالتوافقات الدولية والإقليمية بالدرجة الأولى، بهدف ضبط المعادلات في المنطقة، لتأتي متناسبة مع المتغيرات الجديدة التي كلفت شعوب المنطقة كثيرا من المآسي والآلام والحرمان والتشرد.

مشكلات المنطقة الكثيرة المعقّدة المتداخلة لا يمكن أن تحلّ بتفاهمات الحدود الدنيا بين كلّ من إيران والسعودية فحسب

شهدنا في العام الفائت تقارباً سعودياً إيرانياً، ولكنه لم يتجاوز مستوى تهدئة الأوضاع في اليمن تحديدا، ومحاولات التوافق في العراق، لا سيما بعد بروز نزعة وطنية عراقية واضحة تتمثل في المطالبة باستعادة السيادة العراقية، ووضع حدّ للفساد الذي يبدّد ثروات البلاد الضخمة. فالعراق من الدول الغنية في المنطقة، ولا يقل شأناً في هذا عن كل من السعودية وإيران، ولكن مشكلته أنه مُني بقوى انتهازية جشعة، وجدت أن مصالحها الشخصية والشللية والحزبية مرتبطة باستمرار التغلغل الإيراني في مفاصل الدولة والمجتمع العراقيين. ومع ذلك كله، يظلّ التقارب الإقليمي أفضل من التباعد، ويبقى الحديث عن المصالح المشتركة، ومستقبل المنطقة، أفضل من التلويح بالضربات الصاروخية واستخدام مختلف أساليب الخداع والتحايل من أجل امتلاك السلاح النووي.
ولكن مشكلات المنطقة الكثيرة المعقّدة المتداخلة لا يمكن أن تحلّ بتفاهمات الحدود الدنيا بين كل من إيران والسعودية فحسب، فهناك مصر وتركيا وإسرائيل، وكل دولة من هذه الدول تعاني من مشكلاتها الداخلية، ولها تحدّياتها الإقليمية والدولية، ولا يمكن أن تقوم بالدور المنتظر منها على صعيد استقرار المنطقة وأمنها ونهوضها وازدهارها، ما لم تكن هناك إرادة جدّية لمعالجة قضاياها، والتخلي عن أسلوب تصدير أزماتها الداخلية البنيوية إلى فضاءات المحيط الإقليمي، فالدور الإسرائيلي كقوة إقليمية أساسية لا يمكن، رغم كل التطبيع العلني مع دول المنطقة، والعلاقات العلنية والسرّية مع مسؤولي دول أخرى هي في طريقها إلى التطبيع مع الدولة العبرية، لا يمكن أن يصبح دوراً مقبولاً من شعوب المنطقة، خصوصا العربية منها، من دون التوصل إلى حل عادل واقعي ممكن مع الجانب الفلسطيني. 
وتركيا، هي الأخرى، لا يمكن أن يرتقي دورها إلى مستوى إمكاناتها، وتطلعات شعبها وشعوب المنطقة وموجبات التوافق بين دولها، من دون التوصّل إلى حل عادل للقضية الكردية في تركيا؛ وهي القضية الداخلية الأهم التي تمتلك بعداً إقليمياً في كل من العراق وسورية وإيران، وباتت من أركان السياسات الدولية الخاصة بالمنطقة؛ والأمر نفسه بالنسبة إلى إيران التي تحتاج إلى إعادة نظر شاملة في سياساتها الداخلية تجاه مختلف المكوّنات المجتمعية الإيرانية؛ هذا إلى جانب أهمية وضرورة الانفتاح على القوى السياسية المختلفة، لا سيما الإصلاحية منها.

وحدها السعودية من القوى الإقليمية الأساسية التي لا تعاني من مشكلات داخلية كبرى تلزمها بالبحث عن نجاحات خارجية للتغطية عليها

والأمر نفسه بالنسبة إلى مصر التي تحتاج حوارات وطنية جادّة بين مختلف القوى السياسية والمجتمعية الفاعلة التي تشعر بإقصائها عن دائرة العمل العام. وهي قوى يمكنها المساهمة في إيجاد التوازن المجتمعي السياسي المطلوب على الصعيد المصري، وهو توازنٌ إذا ما تحقق سيمكّن مصر من أداء دور أكثر فاعلية وقدرة على التأثير الإيجابي في المحيطين العربي والإقليمي، وحتى على المستوى الدولي. ووحدها السعودية من القوى الإقليمية الأساسية التي لا تعاني من مشكلات داخلية كبرى تلزمها بالبحث عن نجاحات خارجية للتغطية عليها. ولكنها، ومعها دول مجلس التعاون الخليجي، لا يمكنها بمفردها أن تكون عامل استقرار الإقليم وسط قوى عديدة لكل منها مشاريعها الإقليمية المتعارضة.
كانت هناك اتصالات علنية، أخيرا، على هامش الدورة 78 للجمعية العامة للأمم المتحدة بين ممثلي الدول المعنية. ويُشار هنا إلى اللقاء بين الرئيس التركي ورئيس الوزراء الإسرائيلي، وبين وزيري خارجية مصر وإيران، وبين وزير الخارجية السعودي ونظيره الإيراني، ويوحي ذلك بوجود هاجس لدى الجميع يتمحور حول ضرورة تجاوز الأوضاع السابقة التي استنزفت طاقات وموارد كثيرة، وهي تهدّد، إذا ما استمرّت، بالمزيد.
وبناء على ما تقدّم، لا بدّ من التساؤل: هل يمكن اعتبار الاتصالات المعنية حصيلة تبلور قناعات راسخة بضرورة التوافق على آلية للتعاون الإقليمي، بغية حل مشكلات الإقليم، والاستعداد للتحدّيات القادمة التي تتمثل في الاستقطابات الدولية والمتغيرات المناخية، ومشكلات الفساد والمخدّرات والإرهاب والفقر والمرض وغيرها؟ أم أن ما يجري لا يتجاوز حدود دائرة البحث عن تحالفاتٍ، أو مهادناتٍ آنية استعداداً لتصفية حسابات إقليمية أخرى، في ضوء المستجدّات الدولية الحاصلة والمحتملة؟

8801BA5A-2E79-4DFD-ACA8-06C922BECC8F
8801BA5A-2E79-4DFD-ACA8-06C922BECC8F
عبد الباسط سيدا

كاتب وسياسي سوري، دكتوراه في الفلسفة، تابع دراساته في الآشوريات واللغات السامية في جامعة ابسالا- السويد، له عدد من المؤلفات، يعمل في البحث والتدريس.

عبد الباسط سيدا