جدل الرئاسيات في تونس

جدل الرئاسيات في تونس

19 ابريل 2024

تونسي يصوّت في الانتخابات المحلية في مركز اقتراع في العاصمة تونس (4/2/2024/الأناضول)

+ الخط -

مع اقتراب محطة الانتخابات الرئاسية في تونس، في خريف العام الحالي، بحسب ما تنصّ عليه المواد الدستورية والآجال الانتخابية، وما أعلنته الهيئة العليا المستقلّة للانتخابات، انطلق الجدل بشأن الترشّحات والظروف السياسية التي تُحيط بالمشهد الوطني في جميع أبعاده، منذ انقلاب قيس سعيّد على دستور 2014، والبرلمان في يوليو/ تموز 2021. لم يفصح الرئيس قيس سعيّد بعد عن نيّته الترشّح وتجديد عُهدته، ولكنه عبّر مراراً عن تحمّله مسؤولية البلاد والشعب وعدم سماحه بتولي أيّ مرشّحِ آخرَ المنصب خلفاً له ممن يُصنّفهم وفق معاييره "أعداء الوطن"، إلى جانب تصريحات أنصاره والقريبين من دوائره، التي تفضي إلى تواصل حكم سعيّد إلى حين إتمام وعوده.

غموضٌ نسبيٌ في قصر قرطاج، ووضوحٌ في سياسات الدولة تجاه كلّ من يرفع رأسَه ويُؤكّد نيّته دخول غمار المنافسة، إذ لم تتوانَ الأجهزة في وضع كلّ مرشّحٍ مُفترضٍ داخل مسارات قضائية، وتحت متابعات أمنية مختلفة، ناهيك عن جملة المعارضين الذين زُجّوا في السجن على مراحل، منذ أكثر من سنة، وهم ضمن الشخصيات السياسية الأكثر أهمية المنافسة للرئيس الحالي. لأول مرّة منذ ثورة 2011، تُخاض الانتخابات الرئاسية في ظل تضييقات أمنية وأحكام قضائية جائرة تطاول المعارضين والسياسيين، وتجريم العمل الحزبي والمدني، إلى جانب الانتكاسة التي تشهدها حرّية الإعلام والصحافة.

كما تسجل هذه الانتخابات حدثاً فارقاً بتسجيل ترشيح من داخل السجون، تمثّل في إعلان الحزب الجمهوري تزكية أمينه العام عصام الشابي، المعتقل بتهمة التآمر على أمن الدولة منذ فبراير/ شباط 2023، لخوض غمار المنافسة. وبقدر ما تمثّل هذه المحطّة امتحاناً للشارع التونسي لتصويب المسار السياسي والسلطوي في البلاد بعد مباركة كثيرين فيه للانقلاب، خاصّة مع تدهور الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية بشكل غير مسبوق. بقدر ذلك، تعدّ هذه الانتخابات أيضاً اختباراً للمعارضة التي فضّلت خيار المقاطعة لكلّ المحطات الانتخابية التي جاءت بها خريطة الطريق التي أقرّها الرئيس سعيّد منذ 25 يوليو/ تموز 2021، ورفضت الاعتراف بالدستور الجديد الذي اعتُمد إثر استفتاء صيف 2022، لإعادة النظر في موقفها من المشاركة وإمكانية التوافق على مرشّح واحد يكون مناسباً للمنافسة، وجديراً بطيّ صفحة الاستبداد واستئناف الحياة الديمقراطية مع إصلاحات عاجلة.

يظلّ أهم تحدّ أمام طيف واسع من السياسيين حالياً تقديمَ نقدِهِم الذاتي والدروس المُستخلَصة من تجارب الماضي

تُؤكّد نسب الإقبال الهزيلة التي شهدتها العمليات الانتخابية السابقة، وعزوف الناخبين، عدم شعبيّة الخيارات الرئاسية، وضمور الثقة في مؤسّسات الدولة وممثّليها، وغياب الحاضنة الشعبية للانقلاب. وأيضاً، غياب فرصة لإنتاج بديل جدّي من الواقع السيئ الذي تمثّله السلطة والمعارضة على حد سواء، رغم الفوارق الشاسعة بينهما في النضالية والتشبّع بقيم المواطنة والديمقراطية. ويظلّ الرهان بعد ذلك على تجنّب الاستقطاب بين الكتل التقليدية أو حضور مرشّح إسلامي يعزّز الصراع القديم والمتجدّد، ولا سيّما مع أجهزة الدولة التي بيّنت حقائق التجربة فاعليتها وتدخّلها القوي في العملية السياسية التونسية.

بروز بعض الأسماء التي تعدّ من رموز العشرية الماضية، في خضمّ الجدل الانتخابي، والحديث عن إمكانية ترشّحها، لن يزيد الطين إلا بِلَّةً، وسيفاقم تعقيدات الأزمة التي تتغذّى من تدوير عناصرها ومسبّباتها باستمرار. وليس الأمر من باب التبخيس، ولكن لغياب الجدوى والفاعلية السياسية من حضورها في مضمار السباق الذي يستوجب، في تقدير كثيرين، عناصرَ مغايرةً وفاعلين جدداً لتجنّب تكرار السيناريوهات القديمة وتفويت الفرصة على من يريد اجترار الادّعاءات الشعبوية ضد الخصوم السياسيين للتلاعب بعقول الناخبين، والتفرّد بالسلطة والمؤسسات. ويظلّ أهم تحدّ أمام طيف واسع من السياسيين حالياً تقديمَ نقدِهِم الذاتي والدروس المُستخلَصة من تجارب الماضي، إلى جانب أدوارهم النضالية والفكرية، ليساهموا بذلك في كسر بعض الحواجز التي تحول دون صياغة مشهد سياسيّ وطنيّ جديدٍ ومغاير.

يعتبر بعض السياسيين في تونس مثل هذه الدعوة المتكرّرة إحالة قسرية على التقاعد، في حين يُغفل كثيرون منهم أنّ من الضروري أحياناً القيام بخطواتٍ إلى الوراء، ومن الشجاعة فسحُ المجالِ لنشوء وبروز مكوّنات ورمزيات أخرى في الساحة، تحرّك بعضاً من المياه الراكدة أو تخوض معركتها الوطنية بطرقها المختلفة، ووفقاً لمتطلبات الواقع وبعيداً عن التحرّك المُستمرّ في حلقة مفرغة من الصراع؛ صراع الدولة مع السياسيين، وصراع السلطة مع المعارضة، وصراع العلمانيين والإسلاميين، وصراع الماضي مع الحاضر... إلخ.

متّفقٌ على غيابُ البدائلِ الناضجةِ ولكن يجب إفساح المجال أمامها لتولد

ومن المتفق عليه غيابُ البدائلِ الناضجةِ حالياً، ولكن يجب إفساح المجال أمامها لتولد، وإن تطلّب الأمرُ ولادةً قيصريةً. فقط، بعد أن تستوعب الطبقة السياسية العريضة في تونس أنّه حان الوقت لميلاد جيل سياسي جديد تساهم في الدفع به لينقذها من نفسها، وينقذ مستقبلَ البلاد، وما دون ذلك سيكون تكريساً للفشل والإخفاقات التي تُعزّز الصراعات المُتَوارَثَة مضافاً إليها صراعٌ بين الأجيال.

وحدة المعارضة السياسية مرحلياً خلف ترشيح خفيف أيديولوجياً ثقيل في البرامج والسياسات، لا تفرض بالضرورة نجاحَه في غيابِ الشفافيةِ والنزاهةِ الانتخابيةِ واصطفاف هيئة الانتخابات وراء الخيارات الرئاسية، لكنّها تفتح باباً على المستقبل في جميع الأحوال، كما تضع السلطة الحالية أمامَ تحدٍ صعبٍ بين المنافسة والتزوير.

تعدّ هذه الانتخابات آخر ما تبقّى من أجندة دستور 2014، وفرصةً أخيرةً أمام الطبقة السياسية لتثبت لنفسها، قبل متابعيها ومنتقديها، أنّها فهمت الدرس من الانقلاب الذي مَهَّدَتْ له الطريق بهفواتِها وأخطائِها.