تدخّل العسكر في السياسة الفرنسية: آخر العلاج الكي

تدخّل العسكر في السياسة الفرنسية: آخر العلاج الكي

15 يناير 2022

جنود فرنسيون في عرض عسكري في باريس (14/7/2021/Getty)

+ الخط -

انتشرت، أخيرا، على بعض القنوات ووسائل الإعلام الأخرى، بعض النداءات، الكتابات والنّقاشات الدّائرة، كلّها، حول آخر مبتكرات اليمين المتطرّف في فرنسا، وهي قضية إقحام/ اقتحام العسكر في الحياة السّياسية الفرنسية على خلفية ما يطلقون عليه تزايد وتيرة التّهديدات على الهوية الفرنسية، الأمن الفرنسي والمستقبل برمّته.

انطلقت تلك الشرارة بعد نشر شبه نداء رسمي لجنرالات وقيادات عسكرية فرنسية، أكثرها متقاعدة، في وسيلة إعلام يمينية متطرّفة (مجلة القيم الحالية)، في شهر يوليو/ تموز 2021، تضمن الحديث عن انزلاق الحياة السياسية الفرنسية إلى الحضيض بعدم إيلاء السّياسيين، سواء الرسميين أو من الطّبقة الحزبية، الاهتمام اللازم لقضايا الإسلام السّياسي، الهجرة غير الشّرعية والعنف في الضّواحي التي تسكنها أغلبية مغاربية وأفريقية، ما يعني أنّ تلك القضايا غير أولوية بالنّسبة لهم. وبالنّتيجة، ربّما يكون الحلّ الأخير والعاجل هو التدخّل العسكري في الحياة السّياسية لإصلاح ما لم يتمكن السّياسيون من إصلاحه.

وعلى الرّغم من موجة من انتقادات لاذعة لقيها ذلك النّداء من السّياسيين والإعلاميين، إلّا أنّ مترشّحين لرئاسيات إبريل/ نيسان المقبل تلقّفوا ذلك النّداء، وخصوصا من اليمين واليمين المتطرّف لطرح وجهة نظر يظنّون أنها وجيهة، في الوقت الحالي، لرفع تحدّي القضاء على تهديدات، حقيقية ومحتملة، على فرنسا من جهات محدّدة وذات صلة بقضايا معينة، لعل أهمها، على الإطلاق، الهجرة، الإسلام، العنف في الضّواحي. وتمّ طرح احتمال الاستعانة بالقوّة العسكرية لضمان الانتهاء، بمعنى القضاء المبرم، بصفة كاملة، على تلك الإشكالات بقصد، كما يرى بعضهم، من السّياسيين والإعلاميين التّابعين لتوجه سياسي بعينه، إعادة الحياة لفرنسا وللفرنسيين، بعيدا عن تلك التّهديدات ومصادرها.

ضحايا تلك الدعوة إلى عسكرة الحياة السياسية الفرنسية المهاجرون وهويّتهم الدينية والثقافية

بالرّجوع، قليلا، إلى الوراء، نجد أنّ أوّل من أثار هذا الاحتمال، بل دعا إليه، هو المترشّح الحالي للرئاسيات إيريك زيمور، في كتاب له نشره العام 2015 بعنوان "الانتحار الفرنسي"، عدّد فيه تلك التّهديدات، واستدعى، تبعا لذلك، مرجعيات استخدام الدّولة الفرنسية العسكر، وتم انتقاده، أيضا، من سّياسيين وإعلاميين كثيرين بسبب ذلك لكنّه، منذ ذلك العام، ما زال يشكّك في قدرة الدّولة الفرنسية على رفع تلك التّحديات، من دون الاستعداد لها، من كلّ النّواحي، ومنها تعديل التّشريعات القانونية لتكون ملائمة للتّهديدات، وما ينبغي لها من أدوات، حتّى ولو كان استدعاء تدخّل العسكر في الحياة السّياسية بمرجعية ما حدث، في أكثر من مرّة، وتم تسجيله، وفق زيمور ومن يناصر رأيه، في المادّة 16 من دستور الجمهورية الخامسة، دستور العسكري شارل ديغول، الجنرال، ومنها أنّ الرّئيس هو القائد الأعلى للجيش، ويمكنه ذلك، أي الدعوة إلى تخلٍّ مؤقت للعسكر في بعض العمليات الأمنية الدّاخلية.

وقد أعادت الإشارة إلى النّداء، قبل أيام، قناة إخبارية مقرّبة من الدّوائر اليمينية في ساعة سياسية نقاشية، كان يشرف على تقديمها إيريك زيمور، قبل ترشّحه، مع الحديث على أوجه القضية من سياسية، قانونية وإيديولوجية، وكأنّ الأمر سيكون في محور الحملة الرّئاسية الحالية. بل كان أحد مرشّحي اليمين في الانتخابات الأوّلية (الحزب الجمهوري)، قد تحدّث عن إمكانية استدعاء تدخل الجيش إذا فاز في الانتخابات، لتكون النّتيجة عودة الحديث بلغة التّصعيد ضدّ الضّواحي، الهجرة والإسلام، من مرشّحة الجمهوريين (حزب يميني محافظ)، بعد العودة إلى الحديث عن استخدام القوّة في تلك القضايا، كما كان يدعو إلى ذلك الرّئيس اليميني الأسبق نيكولا ساركوزي، في تصريحات أثارت موجة من السّخط، آنذاك، لكنّها أصبحت طبيعية، الآن، مع تصاعد الخطاب اليميني، سياسيا وإعلاميا، في فرنسا.

ارتفاع وتيرة الحديث عن احتمال توجيه دعوة إلى الجيش للمساعدة في القيام بمهام أمنية داخلية ضد فرنسيين من أصول أجنبية، سيصبح أمراً عادياً

على المستوى السياسي، هناك مرجعية تصاعد ذلك الخطاب اليميني وإيجاد مكانة له لدى الطّبقة السّياسية الفرنسية، باعتبار أنّ الدعوة إلى تدخل الجيش متلازمة مع تشديد الخناق على إشكالات يجب أن تكون محورية في الحملة الرئاسية لتتولى السلطة المقبلة، بعدها، بتحمّل مسؤوليتها في استدعاء كلّ الإمكانات بما يحول دون استفحال الخطر، وفق لغة ذلك الخطاب، ومن الجميع، اليمين مثل اليسار، لأنّ ذلك مدعاة للحصول على أصوات الفرنسيين والرّفع من حظوظ الحضور للدّور الثاني من الانتخابات. وترافق ذلك، من ناحية، مع القدرة على إسماع اللّغة الجديدة في التعامل مع "الآفات" السّياسية كما تُسمّى، الآن، في الحملة الرّئاسية، في فرنسا. ومن ناحية أخرى، احتمال الفوز في الانتخابات التّشريعية المقبلة، ذلك أن الرئيس المنتخب عادة ما يتبع وصوله إلى قصر الإليزيه (مقرّ الرئاسة الفرنسية) بتنظيم التّشريعيات المبكرة لتسمية حكومة جديدة تعمل ببرنامجه.

من الجانب القانوني، تتخذ التشريعات الفرنسية من المادّة 16 من دستور 1958 مرجعيّة للحديث عن استدعاء تدخّل الجيش في القضايا الدّاخلية التي كانت سياسية، في المراحل التاريخية السّابقة، ثمّ تتطوّر، مع تصاعد الخطاب اليميني، لتأخذ شكل قضايا بخلفية أمنية وقوانينية تم استخدامها، من قبل، لدعوة الجيش للقيام بمهامّ أمنية في أعقاب الانقلاب على ديغول في البدايات الأولى لرئاسته، في أثناء الحرب التّحريرية الكبرى للجزائر، كما كانت تلك التّشريعات مرجعية استخدام الجيش بعد عمليات إرهابية طاولت الأرض الفرنسية في العامين 2005 و2015 (عمليات فيجي بيرات لاستعادة الأمن بمشاركة وحدات من الجيش، الدّرك والشّرطة)، وإن كانت تلك الاستخدامات مجرّد إبراز لحضور أمني مشدّد بقصد ردع الجماعات الإرهابية، حتى لا تعيد الكرّة وتهاجم فرنسا، مرّة أخرى. لكن، ما تطرحه الدّعوة السّياسية الحالية هي كيف يمكن للجيش أن يتدخل في عمليات سياسية ذات خلفية بوليسية، بل ضد إشكالات اجتماعية على غرار الهجرة، أو دينية على غرار ما تعرف بالانعزالية الدينية الموجهة، أساسا، ضد الإسلام والمسلمين؟

مشهد غريب في دولة ديمقراطية قد تستدعي من الأكاديميين قراءة أعمق

في النهاية، ستكون التّداعيات تجاه دولة بحجم فرنسا إلى عسكرة تدريجية لحياتها السّياسية بداعي القضاء على إشكالات، هي سياسات عامّة يدرجها صُنّاع القرار والسياسيون، في بلدان أخرى، ضمن حزمة تشريعات إدماجية وتوفير للعمل مع التوجّه، أكثر، إلى القضاء على الإقصاء الاجتماعي. لكن، في الحقيقة، ما تعاني منه فرنسا هو ثورة جديدة لمراجعة الهرمية الطبقية. وقد برز ذلك من خلال حركة "السترات الصفراء" مع قراءات استشرافية لاحتمال تصاعد ذلك على خلفية انعكاسات جائحة كورونا وتراجع فرنسا، تبعا لذلك كله، على الصعيدين الاقتصادي والسّياسي، و تزامن ذلك مع مشكلات هيكلية في الاتحاد الأوروبي ومكانة فرنسا المشكوك فيها على الصعيدين الدّولي والجيوسياسي/ الاستراتيجي، بعد حادثة الغواصات الأسترالية.

يستدعي ذلك، سياسيا، تصاعد موجة اليمينية قد تكون عواقبه، بمناسبة الرّئاسيات المقبلة، فوز مرشّح يشبه ترامب، وهو موجود ضمن الطموحين، الآن، للوصول إلى الإليزيه، حتى مع وضع عقبات في طريقه، من أمثال عرقلة حصوله على التّوقيعات المطلوبة لترسيم ترشّحه (500 توقيع من عمداء فرنسا). ما يعني، مستقبلا، أنّ إثارة تدخل العسكر في الحياة السياسية بنموذج النداء المذكور، أو ارتفاع وتيرة الحديث عن احتمال توجيه دعوة إلى الجيش للمساعدة في القيام بمهامّ أمنية داخلية ضد فرنسيين من أصول أجنبية، سيصبح أمرا عاديا، وسنشهده يتكرّر في المجالين الإعلامي والسياسي، إلى غاية إبريل/ نيسان المقبل، موعد الرّئاسيات.

.. كانت تلك قراءة في مشهد غريب في دولة ديمقراطية قد تستدعي، منّا ومن الأكاديميين، قراءة أعمق قد تكون في حجم إشكالية يتمّ الحديث عنها، حاليا، في الوسط الأكاديمي تحت مسمّى "الشعبوية وتداعياتها"، وقد يكون لفرنسا الحظّ الأوفر لتشكل حالة دراسية، وخصوصا أن ضحايا تلك الدّعوة إلى عسكرة الحياة السّياسية الفرنسية هم المهاجرون وهويّتهم الدّينية والثّقافية.