المواطنة الغائبة في انتخابات الصحافيين المصريين

حضور المواطنة الغائبة في انتخابات الصحافيين المصريين

19 مارس 2023
+ الخط -

ربما يكون خبر فوز خالد البلشي نقيبا للصحافيين المصريين، مع صورة لصحافي يصوّت لصالحه مستخدما قلما يحمل اسم منافسه، خبر هذا العام وصورته في مصر، بما تحمله الصورة من رمزية تفيد بأن حالة تكثيف الدعاية لا تعني بالضرورة ترسيخا للوجود الفعلي، أو فرضا للإرادة المنتصرة. وربما تظهر الدعاية المكثفة أحيانا ضعفا، وحضورا شكليا، وتظل بين الدعاية والحقائق مساحاتٌ ربما لا نقدّرها، وتحتاج تبصّرا. وتبرز الصورة أيضا تجسيدا لفعل فردي، يصنع فعلا جمعيا حين تتحقّق أسباب وجوده من رؤية وشعارات وفعل جماعي يمثل مجموعات المصالح.

حمل الخبر أيضا، لدى بعضهم بشارة، حتى وإن كانت انتخابات الصحافيين تمثل انتصارا على أرض محدودة وبأصوات كتلةٍ تمثل نخبا في نهاية المطاف، ما يزيد قليلا عن خمسة آلاف صحافي، مثلوا الجمعية العمومية، وهو تقريبا نصف عدد مجمل الصحافيين النقابيين. ولكن انتخابات نقابة الحريات تظلّ معبّرة، وذات دلالة، وتحمل، من دون مبالغة، صورةً مصغّرة لإمكانات مقاومة السطوة، والاستسلام للهزيمة والإحباط ودالّة على قدرة الفعل الجماعي. وحتى ولو كانت الأعداد المشاركة محدودة، فإنها تمثل، في النهاية، كتلة ذات تأثير، أو الكتلة الحرجة، وهي في الانتخابات، اختارت المشاركة وتحديد ممثليها، ما يعنى أيضا، على مستوى أعمّ، ميلا واستعدادا لمفارقة سنوات الانسحاب من المجال العام، سواء كان الهرب جبرا أو اختيارا بفعل الإحباط. وأنتج هذا الحضور مجلسا في مجمله مغايرا، من حيث المزاج الصحافي، والتوجّهات، ومنحازا في عمومه لهموم المهنة وقضية الحريات والحقوق النقابية. كما جاءت الانتخابات في لحظة عتمة كاملة، بوجوه تتماشى مع قيم ومطالب ضمن مدوّنة التغيير، ومنها تحرير الإرادة، والقدرة على الاختيار، والأمل في ردّ الصناديق المختطفة لأصحابها، يختارون من يشاؤون من دون وصاية أو توجيه أو خوف.

وفي المعركة التي نظر إليها بعضهم بقدر من الاحتفاء، واعتبروها تحمل قدرا من الأمل، تنتصر وجوه جديدة، أعلنت انتصارها لجموع الصحافيين، أمام مرشّحين يحملون النقيض، حيث يقدّمون أنفسهم إعلاميين يمثلون مؤسّسات السلطة الرسمية وأجهزتها، وصوتها المعبّر عنها، وبموقعهم الذي تصوّروه، يفاوضون زملاءهم على التصويت لهم مقابل امتيازاتٍ مادية، لكن مرشّحهم لم يصل إلى موقع النقيب. هذا ورغم محدودية موارد حملة خالد البلشي، ولكنه استطاع صدّ حملات التخويف والتشنيع، إضافة إلى صياغة خطاب موضوعي، يجمع ما بين مطالب نقابية تتعلق بالأجور وظروف العمل اللائق والخدمات، وقضايا الحريات، والأخيرة لا إمكانية لمزاولة المهنة من دونها، غير إيضاح أن دور النقيب الدفاع عن حقوق كل العاملين من دون تمييز، كقاعدة للعمل النقابي، وما يستلزمه من أدوار تمثيل أصحاب المهنة، والاتصال والتفاعل مع كل الأطراف والمؤسسات.

حرية الإعلام مكوّن أساسي للسياسة، وركن أصيل لمجال عام يتسع للمشاركة والتعبير

يمكن أن تُقرأ معركة انتخابات نقابة الصحافيين المصريين أيضا من حالة الاحتفاء الذي تجاوز الصحافيين، وامتدّ إلى شخصيات من المجتمع المدني والسياسيين، صورة لمصر المتعطّشة لانتخابات غير معروفة النتائج مسبقا، جسّدتها نقابة شهدت، طول تاريخها، اتصالا بين العمل النقابي وقضايا الحريات، وكانت حاضرةً في فترات تاريخية، تنتصر للقضايا العادلة، محليا وعربيا، وتناقش قضايا المجتمع، إضافة إلى استضافة قاعاتها أنشطة التضامن مع الشعوب العربية، كما كانت مرتكز اتصال وتعاون بشأن قضايا وطنية عامة.

من جانب آخر، حرية الإعلام مكوّن أساسي للسياسة، وركن أصيل لمجال عام يتسع للمشاركة والتعبير، ولا مجال لممارسة السياسة من دون إعلام حرّ، ولا يمكن أن يكون الإعلام قائما من دون حرية. وربما تكون هذه العبارة الموجزة إحدى رسائل الجمعية العمومية أخيرا إلى السلطة في مصر، ومفادها بأن سنوات السلطوية والحجْر على الرأي لم تعد مقبولة، ولا مبالغة أنها رسالة عامة وإن كانت صادرة من عينه محدودة تمثل فاعلين في المجال العام، ورغم ذلك لا تفقد مضمونها وصداها، أو درس أهم، أن الناس، بحكم الإرادة والتمسّك بالأمل والعمل الجماعي، يمكن أن ينتصروا لإرادتهم الحرة من دون وصاية، ولو في معارك صغيرة تصنع عملية تراكم مستقبلا.

الفرحة تتجاوز أعضاء نقابة الصحافيين، إلى فئات أخرى، لأنها ببساطة، تُشعرهم بالمواطنة الغائبة

ربما ستذهب بعض أقلام السلطة في التحليل، لتطمئن أولياءها أن هناك مؤامرة محدودة من أهل الشر جرت في نقابة الصحافين. والحقيقة كما يعلم الجميع غير ذلك. ببساطة، هناك أصوات أرادت أن تمارس دورها، وتظهر إرادتها الحرّة في الاختيار، متحصّنة بأمل في التغير، ومثقلة بضيق مما يجرى في المجال العام. وفي الجهة المقابلة، عجز عن الحشد لأطراف اعتبرت أن المرشّح المنافس يمثل السلطة، وهو ربما ما أضاف إلى الجبهة الفائزة قوة، حيث ينتشر الضيق من ظروف مهنية وأعباء اقتصادية قاسية ترى قطاعاتٌ كبيرةٌ أن السلطة مسؤولة عنها، فكان اختيار المجلس الجديد، وما أعلنته شخوصه من قيم وأفكار وتوجّهات، محلّ تفضيل، ومراهنة للتصدّي لتحديات واقع المهنة ومشكلات الصحافيين، من ظروف عمل وأجور، وتدنّي ضمانات العمل اللائق، بالإضافة إلى ملف الحريات، بمن فيه السجناء من الصحافيين. ويمكن أن ترى، في المقابل، السلطة في حالة الحشد في الانتخابات باتباع كل السبل، من دون الخوض في تفاصيل هنا، تكمل أداءً استند إلى التخويف والتشكيك، وتعميمات وتوجيهات للتصويت لمرشحين مقربين للسلطة.

وفي انتخابات الصحافيين المصريين أيضا درس في دور الصناديق الذي كان حضوره نادرا بعد 2014، وهو حين يتحقّق في نقابتهم، فإن الفرحة تتجاوز أعضاءها، إلى فئات أخرى، لأنها ببساطة، تُشعرهم بالمواطنة الغائبة. وأخيرا ربما يكون ما يجرى في انتخابات الصحافيين، وأيضا تحرّكات المحامين من قبل، ضد فرض الفاتورة الضريبية، وتحرّكات مماثلة في نقابات المهن الطبية، تعبيرا عن تغيير في مزاج الطبقة الوسطى التي تريد التعبير عن إعلان رفضها واقعها، وما يجري حاليا من سياسات حمّلتها أعباء ضخمة، بعدما كانت لديها آمال في تحسّن أوضاعها والأوضاع العامة، لكنها فقدت رهاناتها السابقة.

وتأتي الانتخابات والمجلس الجديد محملين بأعباء المهنة وسياقات سياسية صعبة، حيث أزمة متشابكة الجذور متنوّعة المظاهر، فلا يبحث الصحافيون عمن يمثلهم وحسب، فانتخاباتهم مجرّد مثال في مصر.

D75BB17B-0520-4715-86EC-B6995DA95615
عصام شعبان

باحث في الأنثروبولوجيا الاجتماعية بجامعة القاهرة، أحد مؤسسي الجمعية الوطنية للتغيير، عضو المجلس الأعلى للثقافة لدورتين متتالتين، عضو شعبة العلوم الاجتماعية. أحد كتاب الرأى في صحيفة وموقع "العربي الجديد".يقول: "نفعل كما يفعل السجناء، نربي الأمل".