الملك والمخابرات

الملك والمخابرات

22 فبراير 2021

(Getty)

+ الخط -

كان باعثا لأرطالٍ من الاندهاش قول ملك الأردن، عبد الله الثاني، لجيفري غولدبيرغ، في دورية أتلانتيك، في مارس/ آذار 2013، إنه ورث من والده الحسين جهاز مخابراتٍ "مثيرا للمشكلات"، وقوله إن مؤسساتٍ وثق بها لم تكن معه، إحداها المخابرات العامة، وقوله إنه كلما حاول تنفيذ إصلاحٍ ذي قيمة، كإعادة رسم الدوائر الانتخابية ليتّسع تمثيل الأردنيين من أصل فلسطيني في مجلس النواب، فإن المخابرات تهدم، مع نخبةٍ من الرجعيين، محاولاته. ثم في كتاب تكليفه مدير دائرة المخابرات العامة الحالي، أحمد حسني، بموقعه هذا، في مايو/ أيار 2019، أشار الملك، بعد ثنائه على أداء هذه المؤسسة الأمنية، إلى تجاوزات "قلةٍ قليلةٍ" في الدائرة "حادَت عن طريق الخدمة المخلصة للوطن، وقدّمت المصالح الخاصة على الصالح العام"، و"تناست ونسيت أن السلطة والمناصب، وعلى كل المستويات، تصاحبها وتتلازم معها بالضرورة المسؤولية والمساءلة". وأياما بعد تولّيه مسؤولياته، أحال حسني، وهو من قادة دائرة المخابرات نفسها، 20 ضابطا كبيرا إلى التقاعد، أحدهم كان مسؤولا عن ملف الحراكات الشعبية.
يذكّر بالوقائع أعلاه أن عبدالله الثاني، بعد أسبوعين من دعوته مجدّدا، في مقابلة مع وكالة الأنباء الأردنية، الرسمية، إلى إعادة النظر في القوانين والتشريعات المتصلة بملف الإصلاح السياسي، الانتخاب والأحزاب والإدارة المحلية، طالب دائرة المخابرات، الأربعاء الماضي، بأن يصير عملها في حدود اختصاصها الأمني المهني، فلا تتجاوزه، وذلك في رسالةٍ، معلنةٍ أمام الرأي العام، إلى مدير الدائرة، أثارت زوبعة استفهاماتٍ وتأويلاتٍ، من قبيل ما إذا كانت تلبّي استحقاقاتٍ داخلية، أم أنها تتوجه إلى إدارة الرئيس الأميركي، بايدن، سيما وأن الأردن يتراجع في مؤشّرات حقوق الإنسان والديمقراطية عالميا، وعدّه مقياس "إيكونوميست إنتلجنس"، أخيرا، دولةً "سلطوية". وسيما أيضا أن مدير الاستخبارات المركزية الأميركية الجديد، وليام بيرنز، من أكثر العارفين، في طواقم إدارة بايدن، بالأردن، فقد عمل سفيرا سنواتٍ في عمّان.
أيا كانت وجهة رسالة "الاختصاص" الملكية داخليا أم خارجيا، فإن هذا المطلب المتضمّن فيها من دائرة المخابرات العامة شديد الإلحاح في المشهد الأردني العام، ذلك أنه على الرغم من الثقة التي يمحضها الأردنيون لهذه المؤسسة الأمنية، بمقادير أعلى من الثقة بالحكومة والأحزاب والبرلمان، بحسب "المؤشّر العربي" (واستطلاع مركز الدراسات الاستراتيجية في الجامعة الأردنية 2019)، فإن الذائع، أو المحسوم بنسبةٍ ليست هينة، أن المخابرات تتدخل في تركيب مؤسسات في الدولة، وتوجيه بعض التشريعات، وفي تعيينات المراكز القيادية، بل إن مسؤولين كبارا يبادرون إلى "مشورتها" من دون طلبها أحيانا. لا دليل لدى صاحب هذه الكلمات على هذه "المزاعم"، غير أن "موضة" نفيها النشطة أخيرا، معطوفةً على الذائع إلى منزلة المرجّح، تُجيز الإفضاء بها، فإذا صحّ قول رئيس المجلس الاقتصادي والاجتماعي السابق، العين مصطفى الحمارنة، في منتدىً عام قبل عامين، إن المخابرات لم تتدخل في تعيين وزراء حكومة عمر الرزاز، فالمعنى أن تدّخلاتها كانت قائمةً في حكوماتٍ سابقة. ولا يحتاج واحدنا إلى عقل أينشتاين ليعرف أن نوبات التربّص الإلكتروني الوفيرة التي استهدفت شخص الرزاز، وكذا تدوينات وتغريدات التبخيس من شأنه، في ملاعب "السوشيال ميديا"، كانت مسنودةً من نافذين في المخابرات، سيما قبل كورونا. أما قول المدير الأسبق للمخابرات، الراحل سميح عصفورة، في 2012، إن الدائرة لم تعد تتدخل في أمور التعيينات أو شؤون المؤسسات كما كانت تفعل في السبعينيات والثمانينيات، فإن رسالة الملك، أخيرا، تفيد بأن أمورا كهذه ظلت مستمرّة، وإن سوّغتها بنقصانٍ في التشريعات، وبحاجةٍ مؤسسيةٍ إليه. ومن أسئلة كثيرة تخطُر هنا: هل كانت المخابرات بعيدةً عن العسف الذي طاول نقابة المعلمين؟
ملحوظٌ أن مساحات الفجوة بين الحكومات والمواطنين في الأردن تزداد اتساعا، وقد أظهر هذا الحال تقرير حال البلاد (2018) للمجلس الاقتصادي والاجتماعي. ولهذا سيكون انسحاب المخابرات إلى حدود اختصاصها موضوعَ فحص ومتابعة. أما ممارسة الحكم بلا مراقبة ولا تجسّس فأمر لا يعقل إطلاقا، كما قال حكيم هندي قديم (وزّع هارون الرشيد 1700 امرأة عجوز في بغداد، لينقلن إليه أخبار عائلاتها). ولدى المخابرات الأردنية، المحترفة، والغليظة الشديدة في أطوارٍ مديدة، طرائقها في عملها، داخليا وخارجيا، وسوء الظن في العامّة بديهيةٌ في علوم كل المخابرات.

معن البياري
معن البياري
رئيس تحرير "العربي الجديد"، كاتب وصحفي من الأردن، مواليد 1965.