المقاومة الفلسطينية وصناعة الانتصار

المقاومة الفلسطينية وصناعة الانتصار

19 أكتوبر 2023
+ الخط -

منذ تشكّله، ارتبط تصوّر الخط الوطني الفلسطيني المقاوم للتحرير بجانبين: الأول، اعتماد الفلسطينيين على أنفسهم قبل كل شيء، خصوصا بعد تجارب مرّة في تاريخ الحركة الوطنية الفلسطينية، والاستفادة من دعم المحيط العربي قدر الإمكان.

لم تتوقّف مقاومة الاحتلال يوما في فلسطين، ونفذت الفصائل عمليات بطولية تملأ صفحات التاريخ، غير أن ما حصل يوم 7 أكتوبر/ تشرين الأول الحالي يتجاوز مجرّد كونه عملية عسكرية نوعية للمقاومة، ليحمل ملامح الحدث التاريخي المميّز الذي سيكون له أثره في مستقبل المواجهة بين المقاومة والاحتلال. القراءة المتأنّية للجغرافيا السياسية وموقع غزّة بوصفها القاعدة المركزية للمقاومة تكشف جملة من الحقائق، أبرزها أهمية الاعتماد على الذات لمواجهة الحصار والعزلة المفروضة على القطاع من كل الاتجاهات، وإيجاد إمكانية الصمود ذاتيا، وهو ما يعني أن الاعتماد على الذات كان شاملا كل المجالات، بداية من حل المشكلات الاقتصادية والاجتماعية للسكّان، وإعدادهم معنويا لنتائج المواجهة مع الاحتلال، وانتهاء بوضع الخطط والتكتيكات العسكرية المناسبة، مرورا بتدبير الأسلحة والمعدّات والذخائر والتجهيزات والتدريب عليها وإصلاحها وصناعة غير المتاح منها، وتوفير الإمداد والتموين، وقد كشفت الأحداث براعة المقاومة في تدبير شؤونها، بل والتفوّق على الاحتلال في مجالات استخبارية وتقنية، كانت هي الجانب الذي يفخر الكيان الصهيوني بتفوّقه فيه.

يتمثّل الجانب الثاني في قدرة المقاومة على التعاطي مع ميزان القوى المختلّ والمعلوم أن فكرة المقاومة ذاتها تقوم على كيفية إلحاق الحد الأقصى من الخسائر بالعدو، من دون السماح له بفرض تفوّقه التام في المعركة، بما يهدّد استمرار المقاومة ذاتها، فالعدو يملك قواتٍ عسكريةً ضخمةً وأسلحة متطوّرة، بالإضافة إلى دعم خارجي غير محدود تقدّمه الدول الأوروبية والولايات المتحدة. وفي المقابل، لا تجد المقاومة عونا كافيا من الخارج، بل ولا تحظى باعتراف رسمي، حتى من دول الجوار العربي التي كان مفترضا أن تكون حاضنةً لها، وكان من الممكن أن يشكّل ميزان القوى المختلّ حالة يأس وقنوط لدى قيادة المقاومة، خصوصا في ظل تسارع خطوات التطبيع لدى الدول العربية ووجود سلطة فلسطينية شكلية لا تدعم الكفاح المسلح، لكن المقاومة طوّرت أساليب عملها وتعاملت مع الوضع القائم بواقعية في حسابات القوة والضعف، واستطاعت بمهارة أن تضاعف أعداد منتسبيها، وأن تطوّر أسلحتها وتقنياتها، وهو ما أدّى تدريجيا إلى تحسّن أدائها وازدياد خبرتها.

نجاح المقاومة الفلسطينية في تحقيق إنجازات عسكرية مهمة وفاصلة لا ينفي أنها في حاجةٍ إلى دعم محيطها العربي، وهو للأسف في أسوأ حالاته في هذه المرحلة

وهكذا من خلال تطوّر الصراع على الأرض، تمكّنت المقاومة من إدراك جوانب القوة عند العدو، للحدّ من تأثيرها وعوامل الضعف عندها، من أجل معالجتها. ولهذا لم يكن غريبا أن يعلن الناطق باسم كتائب عز الدين القسام أن عملية طوفان الأقصى هي امتدادٌ لسيف القدس، وأن المقاومة تعاملت مع بعض اعتداءات العدو بنوعٍ من الحيادية فقط من أجل كسب مزيد من الوقت، ولمزيد من فهم السلوك العسكري للعدو. تعتمد تكتيكات المقاومة في هذه المرحلة الحرب المتحرّكة والهجمات الخاطفة والعمليات المفاجئة، وهي تدرك أن التفوّق الجوي للعدو لن يكون كافيا لهزيمة قوات المقاومة، وفي الوقت نفسه، سيكون خيار الاجتياح البرّي مكلفا، ولن يغامر الكيان الصهيوني بجيشه في مواجهةٍ غير محسوبة العواقب.

نجاح تكتيكات المقاومة هو الذي جعل العدو يتصرّف بشكل جنوني، ودفع القوى الغربية إلى مساندته بكل الإمكانات العسكرية والمادية، ليقينه أن المرحلة المقبلة في الصراع ستنتقل إلى تطوير الهجمات بشكل أكثر إتقانا، وهو ما سيفتح الطريق أمام الهدف الاستراتيجي، شنّ الهجوم العام وإلحاق الهزيمة النهائية بالعدو.

نجاح المقاومة في تحقيق إنجازات عسكرية مهمة وفاصلة وقدرتها على بناء وعي سياسي وحسّ وطني عالٍ لدى جماهير الشعب الفلسطيني، والعربي عموما، لا ينفي أنها في حاجةٍ إلى دعم محيطها العربي، وهو للأسف في أسوأ حالاته في هذه المرحلة، بعد تراجع ثورات الربيع العربي، وعودة أنظمة الاستبداد التي تسعى إلى تأبيد استمرارها في السلطة، بإيجاد صلات وثيقة مع القوى الدولية النافذة، والتخلي عن فكرة دعم المقاومة التي تمثل إحراجا له أمام الشعوب التي تحمل القضية الفلسطينية في وجدانها، رغم مواقف حكوماتها المتخاذلة، وخصوصا أن الأنظمة العربية ظلّت عقودا ترفع شعار مركزية القضية الفلسطينية، وبقدر تصاعد المقاومة في الأرض المحتلة، فإن الأنظمة الرسمية العربية تراجعت تدريجيا عن شعاراتها المعلنة، بل وتحوّل بعض أنظمتها إلى حليفٍ غير معلنٍ للعدو.

B4DD7175-6D7F-4D5A-BE47-7FF4A1811063
سمير حمدي

كاتب وباحث تونسي في الفكر السياسي، حاصل على الأستاذية في الفلسفة والعلوم الإنسانية من كلية الآداب والعلوم الإنسانية بصفاقس ـ تونس، نشرت مقالات ودراسات في عدة صحف ومجلات. وله كتب قيد النشر.