العودة إلى الأصل: لماذا الديمقراطية؟

العودة إلى الأصل: لماذا الديمقراطية؟

17 ابريل 2021
+ الخط -

في مساجلاتٍ مطولة، كثيراً ما اشتبك الديمقراطيون مع أنصار الاستبداد حول جدلية "شرعية الإنجاز". الصين هي النموذج المعاصر الأشهر، كما يروّج تقديم نماذج "المستبد المستنير" وعادة يضرب المثل بأتاتورك في تركيا، وبورقيبة في الجزائر، وجمال عبد الناصر في مصر.

الإشكال هنا أن ديمقراطيين كثيرين قد انجرفوا إلى ملعب خصومهم. في الواقع لم تنشأ الديمقراطية كإجابة عن سؤال الإنجاز، ولا حتى عن سؤال العدالة بالمعنى الفلسفي. لقد حققت حضارات قديمة "إنجازات" مبهرة من دون ديمقراطية، وحين بنى المصريون القدماء الأهرامات لم يكن حاكمهم منتخباً بل كان إلهاً أبدياً!

الركيزة الأولى لنشأة الديمقراطية كانت سؤال حماية الأفراد بالمعنى المادي البحت. كانت "الماغنا كارتا"، أو الوثيقة العظمى، بذرة الديمقراطية الحديثة، حين تم إقرارها في عام 1215، هي محصلة تكاتف النبلاء البريطانيين ضد الملك، حيث كان إعلان الحرب يعني عملياً الأخذ من أموالهم، وكذلك إرسال أبنائهم إلى الموت، إذ نتحدّث عن عصر كان فيه الفرسان هم أبناء الطبقة العليا، بينما غالباً ما حرم الفلاحون من امتلاك السلاح. كما كان للملك مطلق السلطة في أن يصادر الأملاك أو يقتل، لمجرّد نزوة عابرة. لذلك كان جوهر الوثيقة هي ألا يفرض الملك ضرائب أو يعلن الحرب إلا بعد استشارتهم، وألا يفرض عقوبة على رجل حر إلا بموجب قانون مسبق.

لم يكن مطروحاً بها أي جوانب حول النجاح الاقتصادي أو مراقبة "إنجاز" الملك، ولقرون ظل حق التصويت محصوراً بالرجال ذوي الأملاك، لأن جوهره حماية من تهدّد قرارات السلطة أموالهم وحياتهم، ولم يظهر حق الاقتراع العام إلا بالثورة الفرنسية في 1793. وبالعودة إلى التاريخ، شهدت مصر الفرعونية أول إضراب عمالي في التاريخ عام 1152 قبل الميلاد، كما شهدت بدورها ثورات وانتفاضات.

وفي بلادنا المعاصرة تحديداً، لدينا من الأسباب ما يكفي ويفيض. لقد كانت شرارة الربيع العربي صفعة من شرطية لبائع في تونس، أو شاب من الطبقة الوسطى ليس له أي علاقة بالسياسة مات تحت التعذيب في مصر.

ركيزة أخرى لنشأة الديمقراطية هي سؤال النجاة من أهواء الحكم الفردي. من الوارد أن تدفع المصادفة بأفضل حاكم، لكن الدول تحتاج آلية مستقرّة للحماية من احتمالات وصول حاكم مجنون أو فاسد، خصوصا أنه من يمتلك أسباب القوة القاهرة، مثل الجيش.

تاريخياً، نشأت أشكال من الديمقراطية في اليونان القديمة، وكذلك في روما حيث كان يُحظر على القائد العسكري عبور نهر الروبيكون مع جيشه إلا بإذن مجلس الشيوخ، وكان عبور يوليوس قيصر النهر هو المشهد الخاتم للجمهورية الرومانية التي سقطت في أتون الحرب الأهلية.

بعد ذلك كله، يأتي سؤال العدالة العامة، والذي أدّى، بعد نضالات وحروب، إلى تحرير العبيد، ولمنح حق التصويت للنساء وللسود.

كما يأتي سؤال "الإنجاز"، وهنا نقول إنه بالفعل ثمّة نماذج لأنظمة ديمقراطية فاشلة، وأنظمة استبدادية ناجحة، لكن الأغلب بالأرقام هي أن الدول الديمقراطية أنجح. نسعى إلى القاعدة لا الاستثناء. كما أنّ ثمّة نماذج لنجاحات مبهرة حقّقها حكام مستبدّون، لكن الاستبداد الذي أنجز هو نفسه من أضاع إنجازه. هكذا فعل هتلر وموسوليني وإمبراطور اليابان هيروهيتو وغيرهم.

على جانب ثانٍ، من المهم التشديد على أن "الإنجاز" المستقر يرتبط بأنظمةٍ استبداديةٍ لديها ما قد نسميها "سلطوية سياسية"، بمعنى وجود مؤسسات وآليات رقابية داخلية، وليس حاكماً فرداً مطلقاً. يمكن قول هذا على الصين المعاصرة التي شهدت أوج فشلها ووفاة الملايين جوعاً في عهد الحاكم الفردي ماو، بينما تشهد نجاحها وهي تشهد انتخابات نزيهة بين نحو 90 مليون عضو في الحزب الشيوعي الحاكم، وتم تجريد الجيش من أدواره الاقتصادية. حدث سيناريو شبيه في الاتحاد السوفييتي بعد وفاة ستالين، إذ كان حكمه الدموي دافعاً لتطوير آليات مؤسسية بالحزب الشيوعي أقرب للحكم الجماعي.

فليكن الحاكم مُنجزاً أو غير منجز، ولنقيم ذلك بالأرقام من دون انحيازات، وهذا لن يغيّر من معاناة مسجون ظلماً لأسباب سياسية أو غير سياسية، أو من مأساة أسرةٍ فقدت عائلها بسبب مشادّة مع ضابط شرطة.

الديمقراطية تحمي حياتنا وأموالنا أولاً.