الصعود الفكري السعودي خارج التابو

الصعود الفكري السعودي خارج التابو

15 ديسمبر 2020

(عبد الحليم رضوي)

+ الخط -

انطلقت مهمة المثقف الإنسان في الفضاء السعودي، على الرغم من الإشكالية العميقة المتجدّدة، في سؤال الوطن والانتماء العربي، هل هو عبر الأسرة السعودية الحاكمة، أم عبر الدولة التي قامت على الأرض، مع إقرار تلك النخب برحلة الملك عبد العزيز، في توحيد أقاليم الجزيرة العربية، بغضّ النظر عن المصالح السياسية النفعية المعروفة، للأسرة الحاكمة، وهي المقدّمة التي شرحها مقال الكاتب في "العربي الجديد"، بعنوانه "السعوديون.. البعد العروبي الإنساني الآخر".
وكما استيقظ الرهط الشبابي القديم في الحركات العروبية، منذ الخمسينات الميلادية، نهض الوعي الشبابي الجديد، مطلع التسعينات ووقفوا أمام هذا الواقع بصفتهم متحدّين سياسياً في دولةٍ تجمع قلب جزيرة العرب وأطرافها، فنُلاحظ هنا إقليم الحجاز بخصوصيته وسراته، وامتداده على ساحل البحر الأحمر، ثم الجنوب السعودي الذي يحتضن أقاليم تاريخية، وهي عسير وجيزان ونجران. ثم حائل، وما أشمل منها في الجوف والحدود الشمالية وغيرها، التي تتحد مع جغرافيا الشام الكبرى، ثم نَجْد الممتدة من القصيم حتى وادي الدواسر، ثم إقليم الذهب الأسود (الأحساء) الذي غُيّر اسمه إلى المنطقة الشرقية، في عام 1979 ووصل السعودية بالخليج العربي، وأعطاها الجيوسياسية المهمة في لعبة الأمم، هنا أنت تتحدّث عما يشبه قارّة صغيرة، تقوم على أقاليم عربية تاريخية، سمح لها الانتماء السياسي بأن تتواصل، وتتلاقح وتتعارف، وتتخلّق في مجتمعها الثقافي نُخب قوية في غزارتها الفكرية وعطائها الأدبي، انسحب عمقها على المؤسسات الأكاديمية والفعاليات الثقافية، غير أن الحُكم ظل يتدخل في هذا الصعود، ويُقيّده في توجيه حراكه نحو مدح أسرة الحكم، وسياسات الدولة، بمنهجيةٍ فجّة، وربط كل تميّز بها، وقد كانت هذه المساحات تتراوح مع النبض الثقافي للسعوديين، بين الضيق والسعة، حتى وصلت إلى العهد القمعي الأخير.

إقليم الذهب الأسود (الأحساء) غُيّر اسمه إلى المنطقة الشرقية، في 1979 ووصل السعودية بالخليج العربي، وأعطاها الجيوسياسية المهمة في لعبة الأمم

وخلافاً لما يعتقده بعضهم، من عُزلة السعوديين عن أشقائهم العرب، في الحراك الثقافي، على الرغم من وجود ثقافة عنصرية مُسعودة، تصعد وتهبط، شهدت الحواضر السعودية قيام ندوات مستقلة، يتفوق عطاؤها على بعض البرامج الفكرية والثقافية لمؤسسات الدولة، في جدة والرياض والقطيف والهفوف والقصيم والجنوب وغيرها، ويبلغ صداه حيّزاً واسعاً، من الجمهور، ويصل إلى أقطار عربية. ويشارك في هذه المساهمات أساتذة عرب، من توجهات متعدّدة، تحتضنهم تلك الندوات والفعاليات، وإنْ كان التدخل الرسمي في تنميط الخطاب ظل مستمراً، وقد تحتضن هذه الأقاليم مخزوناً ثقافيا وتراثياً هائلاً، بل تجد أن مستوى حضور بعض النخب الأدبية فيها أقل بكثير من استحقاقها، فدوماً تُحصر في هامش صغير، بسبب التركيز على ربط الحراك الثقافي بالتبعية لأسرة الحكم، مذكّرين بأن هذا القهر يشمل دولا خليجية وعربية أخرى، أي أن مأزق قهر المثقف وحجب عطائه، إلا من خلال كونية النظام، هو كارثة قومية، لا سعودية فحسب.
وعلى صعيد الخطاب الديني، أو موزاييك الحالة الإسلامية في السعودية، كان لبعض أطيافها حضور وشراكة متميزة، لكنها كانت خارج أسوار الصحوة التي توحّشت على ثقافة الإنسان ومشاعره كثيراً. ولذلك جزء من الانقلاب الفكري المتطرّف الذي حصل بعد ذلك كان بسبب ردة الفعل على ذلك الانغلاق، ومطاردة الصحويين والحراك الثقافي للأندية الأدبية وغيرها. غير أن الصورة الأخرى لمشاركة الإسلاميين الآخرين تُعطي مؤشّراً مختلفاً، فتيار التنوير الإسلامي الذي نهض في قلب هذه التقاطعات مثّل منعطفاً مهماً للحياة الفكرية، فكسر "التابو" الرسمي، ومد الجسور، وكان فاعلاً في حراك التنمية الوطني، ومطالباتها الحقوقية المتعدّدة، كما أن بعض الشخصيات الإسلامية شاركت وضحّت للفكر الحقوقي.

في الطيف القومي، صعد جيل حيوي جديد، حاول أن يخلق مشروعاً نهضوياً عروبياً، تقاطع مع التنوير الإسلامي مرحلةً واختلف مرحلة

والخطاب الديني الإنساني الذي برز من السعودية كان أيضاً من منبر إسلامي، وخصوصا في خطاب الشيخ سلمان العودة، وفي العقل الفكري التجديدي للشهيد عبد الله الحامد، وإن اختلفت مسألة الوصف بالإسلامية بين جماعات الإسلاميين واتجاهاتهم التي تفترق كثيراً عن بعضها، لكن الحديث هنا عن أن النقلة الثقافية كانت بشراكة من التنوير الإسلامي السعودي.
وفي قيادة الفكرة النضالية الجديدة داخل التيارات السلفية، مثّل العهد الشبابي السعودي، موقف القوة الجديدة التي بدأت تطرح مسارات الحقوق والقضايا العربية والإسلامية، والعدل الاقتصادي والسياسي، كما في شخصيتي عبد العزيز الطريفي وإبراهيم السكران، غير أن إشكال صراعهم مع فكر النهضة والمذاهب الإسلامية خارج الدعوة الوهابية وُظف من الداخلية السعودية باستمرار، وحُشد الجمهور السلفي عبره من منظومة الدولة الأمنية، لتطوير هذه الصراعات.
وفي الطيف القومي، صعد جيل حيوي جديد، حاول أن يخلق مشروعاً نهضوياً عروبياً، تقاطع مع التنوير الإسلامي مرحلةً واختلف مرحلة، ولكن فكره وحشده الثقافي كان يحضر في المجتمع، ويجد صداه بين الشباب السعودي المختلف اجتماعياً، وإنْ طوّقَه ربطُ عروبته بالأيديولوجيا القومية المتشدّدة أحياناً، وتكريس منظور برجوازي شعوري حاد، نحو الآخرين خارج مجموعاته الفكرية، لكنه تيارٌ أثار منظومة جدل فكري وحقوقي غزير في المجتمع. كما أن فكر الشخصيات العروبية العريقة، مثّل توازناً حيوياً، خصوصا في الرمز الكبير عزيزة اليوسف، لصالح حركة الحقوق النسائية، بدل التطرّف الجندري الذي برز لاحقاً، وتبنّى دعوة الغرب إلى قهر المجتمع ضد القيم الأخلاقية، وجعلها مدخلا مطلبيا سياسيا، قبل الشراكة الشعبية والكرامة الفردية، وكل تلك التيارات تم قمعها.

الخطاب الديني الإنساني الذي برز من السعودية كان أيضاً من منبر إسلامي، وخصوصا في خطاب الشيخ سلمان العودة، وفي العقل الفكري التجديدي للشهيد عبد الله الحامد

وعلى الرغم من ذلك، يبقى حتى اليوم أن هذا التصدر الشبابي لسعوديي الجدل الفكري الحديث بكل أطيافهم، تجده حاضراً في الوطن العربي، وبقوة على ساحل الخليج العربي، ويصل صوته إلى ساحل القرن الأفريقي واليمن، لقوة الروابط التي خلقها سعوديو المنشأ مع محضنهم، وقد تبرز منصّاته التجديدية في الشام والعراق والمغرب الكبير والمهجر. وليس ذلك لقوة العنصر المالي، كما يعتقد بعضهم، وإنما أيضاً لهذه الحالة الاندماجية، للتكوين العربي الثقافي لأقاليم متعدّدة للجزيرة، أخرجت كنوزاً لم تُقدّر، من رحم الوطن الذي لا تعترف سُلطتُه بإنسانه.