الشباب التونسي وفقدان الثقة

الشباب التونسي وفقدان الثقة

22 مارس 2021

شباب تونسيون في وسيلة مواصلات عمومية في العاصمة (17/12/2020/الأناضول)

+ الخط -

تطوي تونس عقداً على سقوط النظام في مسارٍ مربكٍ من انتقال ديمقراطي متعثر، تتفاقم فيه الصعوبات الاقتصادية والاجتماعية التي كانت قادحاً لاندلاع الثورة. وقد نبهت زيارة وفد رفيع المستوى من البنك الدولي، في الأسبوع الماضي، إلى خطورة الوضع، فنسب الفقر ارتفعت بشكل غير مسبوق، علاوة على أزمة ماليةٍ حادّةٍ تهدّد البلاد بالإفلاس. ولم يعد السيناريو اللبناني، بحسب تصريحات أعضاء في الوفد، مستبعداً، إذا لم تتخذ الحكومة حزمة من الإجراءات الجريئة في الأشهر القليلة المقبلة، علّها تحدّ من آثار هذه الأزمة على فئاتٍ واسعةٍ لم يعد في وسعها الصبر، بل مستعدّة إلى أن تجنح إلى العنف، سخطاً على طبقة سياسية لم تعد تثق فيها، بل إنّها غدت موضوع نقمتها.
التحركات الاحتجاجية التي عرفتها تونس في الأسابيع القليلة الماضية، فضلاً عن نتائج استطلاعات الآراء تثبت الهوة السحيقة بين فئات الشباب والنخب السياسية الحاكمة أو المعارضة. لا أحد ينكر أنّ الشباب كانوا من أهم الفئات التي شاركت في مختلف أحداث الثورة، وجلّ المنعطفات التي عرفها مسار الانتقال الديمقراطي لاحقاً، حتى ذهب بعضهم إلى وصف الثورة التونسية بأنّها ثورة الشباب، علاوة على صفات أخرى، ظلت لصيقة إلى حدّ ما بهذه الفئة، على غرار ثورة الحرية والكرامة .. إلخ. لقد أطلقت الثورة لهؤلاء أحلاماً بحجم السماء، وزادت الأحزاب، بشكل مبكّر، في رفع انتظارات هؤلاء ضمن سوق انتخابي لا يتورّع عن التلاعب بعواطفهم، فهم مجرّد خزّان انتخابي، وجب الاستيلاء عليه بكلّ الحيل الممكنة، حتى وإن كانت عواقبه وخيمة.

يحيا الشباب عشرات تجارب الإذلال اليومي، في ظلّ شحّ الموارد المالية للعائلة. يدفعهم الفقر إلى وضعياتٍ عسيرة واختبارات قاسية

في هذه السياقات المتسمة بالهشاشة الاقتصادية والسياسية، وتنامي مشاعر السخط الاجتماعي على النخب السياسية، حكماً ومعارضة، صاغ الشباب صوراً وتمثلات جدّ سلبية عن الطبقة السياسية، فالساسة بالنسبة إليهم فاسدون، لا يعيرون للمصلحة الجماعية أيّ اهتمام، لذا يغفلون، عن قصد أو جهل، القضايا الحقيقية للبلاد، ومنها قضية التنمية العادلة، وتشغيل الشباب، فضلاً عن جودة الخدمات التي تليق ببلدٍ أنجز ثورة.
يحيا الشباب عشرات تجارب الإذلال اليومي، في ظلّ شحّ الموارد المالية للعائلة. يدفعهم الفقر إلى وضعياتٍ عسيرة واختبارات قاسية، ما عمّق عجزهم عن تقرير مصائرهم وحسم خياراتهم، وذلك ما يجعلهم عرضةً لمختلف عمليات السمسرة والابتزاز: أحزاب سياسية تنظر للزبونية، جماعات إرهابية، شبكات المخدرات والأشكال المذلة من تشغيل هش، يتقنه رأسمال مالي يتعيش من التهريب والفساد.
لا يثق الشباب، أكثر من أيّ وقت مضى، في الساسة والمدرسة والوطن والحبّ والعائلة، حتى وقعوا فريسة لهذا القلق الوجودي المدمّر، فهم عاجزون عن تقديم أيّ إسقاطات على المستقبل، أو صياغة برامج يسعون إلى تحقيقها أو يخطّطون لإدراكها، والكلّ يعلم أنّ هذه التواريخ والأهداف المستقبلية تشكل للشباب محطاتٍ زمنيةً مقبلة، يفترض أن تشدّهم إلى الحياة والوطن.

تستفحل أزمة الثقة التي تعصف بفئاتٍ واسعةٍ من الشباب في ظلّ ترهل الزعامات السياسية التي تتراجع نسب الثقة بها

على خلاف ذلك، لا يعرف الشباب التونسي مآلات وضعيتهم، ولا يستطيعون التصرّف في الزمن. إنّهم يدلفون إلى نفقٍ لا يبدو الخروج منه قريباً. تستفحل أزمة الثقة التي تعصف بفئاتٍ واسعةٍ من الشباب في ظلّ ترهل الزعامات السياسية التي تتراجع نسب الثقة بها، في مناخٍ من الشعبوية، وأثبتت مبكراً عدم فاعليتها وعجزها عن تحقيق حاجات حقيقية وملموسة، بعد مضيّ سنة ونصف السنة على الانتخابات، وقد شكل الشباب خزّاناً انتخابياً مهماً للرئيس قيس سعيد.
في ظلّ أزمة الثقة الحادّة التي تعصف بهؤلاء الشباب، تشكّل الأسرة وشبكات القرابة والجيرة، في ظلّ الصعوبات الاقتصادية التي تمرّ بها تونس، قلاعاً يتحصّن بها هؤلاء، ما يؤجّج أحياناً مشاعر المظلومية. تغدو شبكات القرابة في نكوصٍ غريبٍ عن سرديات التحديث الوطني، شبكات أمان اجتماعي ونفسي واقتصادي. ومع ذلك، لا تصمد كثيراً، بسبب الصعوبات العديدة الناجمة عن آثار الأزمة الاقتصادية التي استفحلت بعد جائحة كوفيد-19.

يعاني الشباب من مشاعر الصدمة والخيبة، ويشعرون أنّهم غير مرغوب فيهم، وميؤوس منهم وبلا آفاق

الفقر وسوء التغذية والأمراض العضوية والنفسية، وهي آفاتٌ خلنا أنّ تونس قد قطعت معها بشكل نهائي، تفترس حالياً فئاتٍ واسعة من الشباب. لم تعد العائلة، في ظلّ تراجع القدرة الشرائية لجلّ الشرائح الاجتماعية، قادرة على احتضان أبنائها ضمن مسارات تفكّك عائلي مخيف. لذلك، يعاني الشباب، في هذه الأوساط تحديداً، من مشاعر الصدمة والخيبة، ويشعرون أنّهم غير مرغوب فيهم، وميؤوس منهم وبلا آفاق. هناك أكثر من رابط سببي بين مشاعر الحرمان والإذلال ومختلف أشكال التدمير الذاتي: عنف ذاتي على الجسد، محاولات انتحار أو الإقدام عليه، مخدّرات .. إلخ.
في اللوحة مناطق نور وبياض، علينا أن نوسّعها، حتى نحاصر العتمة تدريجياً، علّها تختفي. والسياسي الجيد هو رسّام وصانع أحلام. هكذا ردّد مؤسّس السريالية، أندريه بروتون.

7962F3C9-47B8-46B1-8426-3C863C4118CC
المهدي مبروك

وزير الثقافة التونسي عامي 2012 و2013. مواليد 1963. أستاذ جامعي، ألف كتباً، ونشر مقالات بالعربية والفرنسية. ناشط سياسي ونقابي وحقوقي. كان عضواً في الهيئة العليا لتحقيق أَهداف الثورة والعدالة الانتقالية والانتقال الديموقراطي.